تجليات ما بعد التغيير

آراء 2023/04/04
...

 ياسين العطواني

عادة ما يشهد تاريخ الشعوب والأمم محطات تاريخية مفصلية، هي بمثابة مفترق طرق في حياة هذه الشعوب. وقد يترتب على ذلك تحولات مصيرية، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ستكون لها أثر واضح على حاضر ومستقبل أبنائها، وهذا الحال ينطبق تماماً على ما جرى ويجري الآن في العراق

فبعد سقوط الصنم ورفع الكابوس، الذي خيم على هذه البلاد لعقود، كان لا بد من إتخاذ الإجراءات والقرارات الجريئة والمدروسة، لتصفية التركة الثقيلة التي أورثها النظام السابق، وهذا الأمر كان يمثل أولوية على اعتبار أن أي عمل أو تطور لاحق، لا يتحقق إلا بتحقيق هذه الأولوية، لذلك أصبح من البداهة التي لا تقبل المساومة أو

التأجيل.

فما قام به النظام السابق من أعمال تخريبية وأحدث تغييرات سلبية في البلاد لم تقتصر على جوانب محددة، بل الأمر تعدى إلى حصول تغيرات جوهرية في المفاهيم والقيم التربوية، والثقافية، والاجتماعية، والسلوكية للمجتمع العراقي، ومنها افتقار هذا المجتمع إلى أبسط المقومات الحياتية المعاصرة، المادية منها والمعنوية، وبطبيعة الحال فإن رفع هذه الركامات الهائلة عن كاهل هذا المجتمع كان يحتاج إلى جهد استثنائي وغير مسبوق.

وهنا السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، وبعد مرور ما يقرب عقدين من الزمن على سقوط ذلك النظام، هو عن الكيفية التي جرى بموجبها التعامل مع هذه التركة، وما هي المعالجات والآليات، التي تمَّ اتخاذها لتفكيك ورفع تلك الركامات؟.

مما لا شك فيه أن الحالة العراقية تمتاز بالتفرد في جميع أوجهها وتوجهاتها، نعم أن الكثير من البلدان قد حــُكمت من قبل ديكتاتوريات متعددة، ومرت بحروب ومآسٍ كثيرة، إلا أن ما حصل في العراق من نكبات ومآسٍ يختلف من حيث الكم والنوع مما حصل لدى شعوب وأمم أخرى، وبالتالي فإن المعالجات الموضوعية، التي كان يُفترض أن تُتخذ يجب أن تكون غير تقليدية في تعاطيها مع مخلفات ما بعد مرحلة سقوط الديكتاتورية. 

وقد جرت عدة محاولات في هذا الشأن، ومنها استحداث عدد من مؤسسات العدالة الانتقالية، لتخطي هذه المرحلة الانتقالية، فهناك من يعتقد أن أفضل طريق يمكن سلوكه وتجنب المطبات التي تترتب عادةً على التحولات الدراماتيكية، التي تعقب عملية التغيير يكمن في مفهوم العدالة الانتقالية، على اعتبار أن هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الإنتقالية هو السعي إلى بلوغ العدالة الشاملة أثناء فترات الانتقال السياسي من الشمولية إلى الديمقراطية، ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، ومساعدة الشعوب على الانتقال بشكل مباشر وسلمي، بهدف الوصول إلي مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. 

إلا أن ما حصل لم يكن بتلك الكيفية، التي جاءت بها مفاهيم العدالة الانتقالية، ولهذا لم تُفلح تلك المحاولات إلى الدرجة التي يطمئن إليها المواطن. 

وقد يلتمس البعض العذر لهذا الإخفاق على اعتبار أن ما حصل من تداعيات ما بعد سقوط الصنم، لا تقل خطورة وأهمية عن ممارسات النظام السابق، وذلك عندما تحالفت جهات وأطراف داخلية وخارجية وبدوافع وغايات شتى، من أجل إرباك الوضع الجديد، إلا أن هذا لم يكن مبرراً لمنع السعي لتخطي تلك العقبات وتجاوزها، وكان بالإمكان استمرار الزخم لتحديد بعض المسارات وإصلاح ما يمكن إصلاحه.

إنَّ عملية التحول الواسع النطاق التي طرأت على الواقع العراقي والمتمثلة بالانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، هي بمثابة التحول إلى النقيض الأيديولوجي والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وهذا الأمر يبدو أكثر صعوبة وتعقيدا من عملية التغيير نفسها. 

ونظراً لأهمية الموضوع وحساسيته، وضمان نجاح هذه التجربة، فعلى الجميع المشاركة في النقاش الدائر حول مواجهة وتصفية تراكمات العهد البائد، وتداعيات العهد الجديد، واختيار أفضل السبل لتحقيق المصالحة الوطنية، ومنع عودة الدكتاتورية من جديد، بإفساح المجال لمؤسسات العدالة الانتقالية بأخذ دورها في بناء العراق الجديد.

على اعتبار أن فكرة وتطبيق العدالة الإنتقالية واحدة من الحلول الناجعة والناجحة للمجتمع العراقي، وتعد خطوة مهمة في تحقيق الطمأنينة والسلم الاجتماعي.