سؤال الوطنية العراقيَّة وجوابه

آراء 2023/04/12
...






 أ.د عامر حسن فياض

الوطنية العراقية نتغنى بها ونحكي عنها من زمان ولم نعشها ونذق طعمها بعد! اختلطت عندنا بالقومية دون أن نميز بينها وبين القومية كمشروع فكرة ومسار نظام، حيث بقيَّ العراق الكيان الجزء من السلطنة العثمانية سابقاً، لينتقل إلى العراق الكيانات صعبة اللملمة وطنياً، لأن الترابط الوطني لم يُفهم بعد بوصفه صيرورة عملية تأريخية وليست رغبة عقيدية تتحقق لحالها..

إن الترابط الوطني في العراق كان ولا يزال مهمة ينبغي أن تنجز انطلاقاً من مقدمة تفيد بأن الإنسان كائن اجتماعي، وأن الترابط الوطني شكل من أشكال الروابط الاجتماعية التي تُنظم على أساسها حياة الانسان وعلاقته في اطار الجماعة الانسانية، ومن ثم فإن قدم الرابطة الوطنية، تابع من توابع قدم الوجود الاجتماعي الانساني نفسه، لكن ما يميز الرابطة الوطنية، هو تطورها وتراوحها بين مستوياتها الثلاثة (الشعوري، الفكري والسياسي) وأن كل مستوى من هذه المستويات الثلاثة يُقاس بدرجة تطور هذه الرابطة الوطنية وتعقيداتها بما يتناسب ومستوى تطور المجتمع ودرجة تعقيده من جهة، ويعكس، من جهة ثانية، الأدوات والأساليب المستخدمة للتعبير عن هذه الرابطة وتجلياتها الواقعية. وقد اتضح أن المستوى الوجودي السياسي للترابط الوطني، هو آخر المستويات الوجودية والصورة الأعمق والأكثر تطوراً ونضجاً لعلاقة الارتباط الوطني في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وأنه المستوى الأوسع والأشمل، لأنه يضم في إطاره المستويين، الوجودين السابقين له (المستوى الشعوري والمستوى الفكري) ومضامينهما. كما أن المستوى السياسي يستكملهما بعناصر ومضامين جديدة ذات طبيعة سياسية وقانونية تنقل الوحدة السياسية من كيان إلى دولة. بيد أن المستوى الوجودي السياسي للترابط الوطني لا يمثل ظاهرة مشتركة بين المجتمعات كلها لارتباطه بالتطورات التأريخية، التي بدأت في أوروبا الحديثة بتأثير مجموعة عوامل وخصائص موضوعية شهدتها بلدان تلك القارة في عصر النهضة وما بعده على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث تداخلت هذه العوامل وتفاعلت ليولد عنها المستوى الوجودي السياسي للترابط الوطني، الذي تجسد على الصعيد العملي في ولادة شكل جديد من أشكال الدول هي الدولة الوطنية (دولة الامة)، وسلطتها المركزية القائمة على أركان ومفاهيم سياسية جديدة تمثلت بالشعب والإقليم والحكومة والسيادة، وحلت قوى ومفاهيم جديدة، في هذه الدول الوطنية، محل القوى والمفاهيم السابقة، إذ حلت البرجوازية محل الاقطاع وسلطة الشعب محل سلطة الملوك المطلقة، والعلمانية محل السلطة الدينية الكنسية، والفكر المادي محل الفكر المثالي، والعقل الناقد محل العقل الخاضع، والقوى الوطنية ودولتهم الحديثة محل القوى الاقطاعية الكنسية ووحداتها السياسية القديمة (امارات وولايات وممالك وامبراطوريات).  لقد كان حدوث التحولات المذكورة انفاً ايذاناً بولادة أوضح الصور الفكرية للوطنية، والتي وجدت تجسيدها النظري والعملي في نظريات وتجارب وطنية، اختلفت فيها محاولات التنظير للوطنية عن بعضها في جوانب وزوايا مختلفة، وتمثلت أبرز تلك المحاولات في نظرية وحدة المصير السياسي ونظرية التحرر، ونظرية التحديث/ التصنيع ونظرية التأقلم الثقافي، ونظرية انهيار الاستعمار. وقد انطلق تصنيف هذه النماذج الوطنية من الاسهامات النظرية الهادفة إلى تصنيف الحركات الوطنية، ابتداءً من تصنيف (لويس وورث) الرباعي للحركات الوطنية (التوحيدية، الخصوصية، الهامشية، الاقلية) مروراً بتصنيف (ناصيف نصار) لتصورات الأمة في نموذج الفكر المشرقي الحديث المتمثل بــ (التصورات اللغوية، التصورات الدينية، التصورات الإقليمية والتصورات السياسية)، وصولاً إلى التفسيرات الخاصة بنشوء الامم وتكوين الوطنيات، التي توزعت بين التفسير الغيبي والتفسير الذاتي الارادي والتفسير الموضوعي والتفسير المركب الذاتي والموضوعي لنشوء الوطنية. وهكذا نستنتج من دراسة التجارب الوطنية الفرنسية والالمانية والأمريكية أن ولادة التجربة الوطنية في التاريخ الانساني تمت في ظروف تاريخية متنوعة، بقدر ما هي مختلفة من أمة إلى أخرى، وأن كل تجربة منها أسست لنفسها مرتكزاتها الخاصة التي انطلقت منها، واستندت في تفسيرها لظروف نشأتها وعوامل تطوره وأن كل واحدة من هذه التجارب قابلة للتطابق إلى حد كبير مع إحدى التفسيرات الخاصة بنشوء الامم وتكوين الوطنية. وأمام العراق فرصة تشكيل الوطنية ضمن إطار دولة الامة العراقية كيما تصبح الوطنية في العراق حقيقية وليس وهما وفعلا وليس قولا.