المجتمع الاتّكالي وصناعة السلطة

آراء 2023/04/12
...






 علي لفتة سعيد


كيف يمكن أن نصف هذا المجتمع بأنه مجتمعٌ مثقف، وأخر جاهلٌ أو أمّي أو أنه لا ينتمي إلى الحضارة البشرية والتقدّم؟ ما هي العلامات الدالة على هذا المجتمع وكيف يمكن تمييزه، لنقول عنه إنه مجتمع راق يعيش زمنه بطريقة متحضرة أو مجتمع متفشٍ بالأمراض يعيش زمنه بطريقة وهمية؟

إن الاجابة لن تكون واحدة، والأهم إن هكذا مجتمع لا يمكن أن يكون إلّا في ما نطلق عليه المدينة الفاضلة أو جمهورية إفلاطون.. باعتبار إن المجتمعات هي مجموعة من الناس تختلف في الوعي والثقافة بدرجات متفاوتة، وهذا الاختلاف يولد بكل تأكيد الفوارق التي تؤدّي إلى وجود مسافة بين التصرف وصناعة الحياة. لكن الأهم من كلّ هذا أن المجتمعات المتفرّقة التي تنظر إلى وجود مجتمعات راقية تنظر لها من خلال فقدانها لما تملكه تلك المجتمعات، مثلما تنظر إلى ما تفتقده هي من عوامل صناعة الحضارة.

إن الفارق بين الاثنين لا يتبلور لأن المجتمع هنا استطاع أن يبني وعيه وثقافته، وهنا لم يتمكّن حتى من الوصول إلى العتبة التي تجعل الحياة صناعة خدمية وليس صناعة اتّكالية.. بما يعني أن المجتمعات التي يمكن أن نصفها بالمتقدّمة لم تكن اتّكالية في العمل وإيجاد الفرص، كما هي في المجتمعات غير المتقدّمة والتي لا نصفها بالفقيرة لأن الفقر المادي لا يصنع جهلًا، إلّا إذا توفّرت عوامل الجهل ذاتها..

إن الاتكالية واحدة من أهم عوامل التراجع الحياتي وبالتالي اتساع الهوّة بين الوعي والاتكالية.. ففي المجتمع الأول تتصاعد نسب الوعي، وفي الثانية تتصاعد نسب الاتكالية.. في المجتمع الأول أوجد له مؤسسات تعمل على تقديم الخدمات وصناعة الحياة، وجعل القانون تابعًا للمؤسسات وكلّها تابعة للدستور هي المهيمنة على العمل الحكومي، في حين في المجتمع الثاني هناك تغييب للمؤسّسات وبالتالي تراجع الخدمات وتراجع قوّة القانون، لأن فيها سلطة أقوى من كلّ الاعتبارات، وواحدة من أهم ضحاياها هي الحكومة ذاتها كونها تابعة للسلطة، والمجتمع الذي اعتمد على الآخر المتواجد في السلطة التي هي أعلى من الحكومة، لن يكون سوى مجتمع اتكالي في النهاية.

وإذا منا أردنا القول فإن الحكومة في المجتمع الاتكالية هي عبارة عن مجموعة السلطات أو ما أطلقت عليها سلطة متعدّدة الرؤوس، وهو ما يؤدّي إلى غياب الوعي المجتمعي وانحسار المفهوم الخدمي وتصاعد نسب المفهوم القومي أو العقدي أو حتى الفردي، لأن الفرد في المجتمع الثاني فردٌ طائعٌ ينتظر من السلطة هي التي تقرّر مصيره، في حين في المجتمع الأول إن الحكومة تنظر إلى الفرد في المجتمع باعتباره هو الذي يقرّر وجودها.

إن المجتمع الاتكالي هو مجتمع صوتي انتقادي احتجاجي، دون أن يكون هذا الصوت الاحتجاجي موجّها إلى الخطأ، بقدر ما هو موجّه إلى المجتمع ذاته، ينهره لأنه مخالف له في التوجّه نحو الجزء من السلطة التي يعتقد إنها التي تلبّي حاجاته وإن المؤسّسات ما هي إلّا معرقلة لهذا الجزء السلطوي، الذي تمكّن من أن يكون بديلًا للقانون وبالتالي للدستور خاصة إذا ما تدخّلت فيها الحسابات فوق العقلية و الغيبية أو حتى العلاقة (النضالية ) لهذه الجهة أو تلك، لأنها تعتقد أن في نضالها (السابق) هو الأساس الذي أوصلهم إلى السلطة، وعليه لابد أن تكون السلطة هي الربح الذي يعوّضهم عن خسارات (النضال)، في حين هذا (النضال) في المجتمعات الأولى لا يكون من أجل اكتساب الربح المستقبلي بقدر ما يكون هو الأساس في توطيد المجتمع المؤسّساتي وبالتالي خضوع الجميع إلى سلطة القانون وليس إلى سلطة الأحزاب..

إن الفرق بين المجتمعين نابع من الفرق في الاتكالية التي صنعتها العوامل البيئية والسياسية وحتى الدينية.. فكلما كان المجمع اتكاليا كلما انقسم على نفسه وتشظّى وتمكّنت القوى المكوّنة للسلطة إلى البقاء بصورةٍ مهيمنةٍ على المقدرات، وهي تسعى لأن تبقي المجتمع اتكاليا عليها وكلّ ما تفعله هو هبة من هباتها ومكرمة.. ولهذا فان التقدّم الثقافي والوعي المجتمعي لن يكون من أجل الخدمة العامة بقد ما يكون متوجّها إلى السلطة ذاتها.