حارث رسمي رحومي
مرةً أخرى سيحتدم النقاش حول هذا التاريخ، وسينقسم الناس حول سرديتين تعبّر عن تلك اللحظة، الأولى ترى بأن ما جرى هو تحرير للبلاد من أعتى ديكتاتورية عرفتها البشرية، والثانية تقول بأنها لحظة احتلال بربري أدخل البلاد في دوامات من العنف وعدم الاستقرار. في الرواية الاولى سيحضر الخوف والموت واحواض التيزاب والكيمياوي وحالات الاختفاء والمقابر الجماعية والحروب، وفي الثانية ستحضر الدبابات والاغتيالات وسنوات من الاقتتال الداخلي وصور ابو غريب والقتل على الهوية. هذه الدولة التي كانت قد اكملت عقدها الثامن يوم سقط نظام الدكتاتور صدام ، وجد مواطنوها أنفسهم امام لحظة معبأة بتناقض كبير وغير منطقي، ان يقبلوا بالاحتلال ودباباته وشركاته الأمنية وما فتحته من خراب، وبين نظام دكتاتوري رهيب يحسب الانفاس عليهم ويتفحصها خشيةً. ولكل رواية حاملها الاجتماعي وخلفياته وأسبابه.
واحدة من اخفاقات النظام السياسي الجديد في العراق هو فشله في أن يوحدنا على سردية تعالج تلك اللحظة، معالجة لا تقوم على اساس تقسيم السلطة استناداً لمظلوميات وحصص عادت بنا إلى ما قبل الدولة، بقدر ما ينشغل هذا النظام وزعماؤه ببناء حاضر ومستقبل، يكون كفيلًا بأن يُخرس أولئك الذين صدعونا، وهم يتحدثون عن “ايام الخير”. والاخفاق الثاني في عدم قدرته على تبيان حجم كارثية ذلك النظام الذي كان الدم حاضراً منذ أيامه الأولى، مروراً بحروبه التي لم تنتهي حتى داست على كثير من قيم المجتمع، وليس انتهاءً بمسؤوليته حتى عن خراب الذوق العام. وصولاً لما بعد خروجه مهزوماً من الحفرة.
نظامٌ قام على انقاض تجربة حكم القرية الواحدة والعائلة الواحدة في ما بعد، إلىأان تجسد كل البلد ونظامه السياسي بشخصية الديكتاتور، حري به ألا يقبل بأن يكون نظام القرى والأسر في ما بعد، بقدر ما يكون نظاماً معبراً عن “الامة العراقية” بمختلف ألوانها واشكالها. وطالما عجز النظام السياسي والمجتمع عن اقامة مثل هذا النظام، سنبقى نتصارع مع الماضي، ونناقض أمراً بديهياً، أن يرتبط الحلم عندنا بالحاضر والمستقبل، لا بالماضي واستعادته.