ا.د. عماد مكلف البدران
الانتلجنسيا عُرف مصطلحاً يعني النخبة المثقفة، فئة من الاشخاص المتعلمين المنخرطين في الاعمال الذهنية المعقدة، التي لها دور نقدي وتوجيهي قيادي في تشكيل ثقافة المجتمع وسياسته، ومنهم الأكاديميون والمعلمون والفنانون والكتاب.
نشأت طبقة الانتلجنسيا في أواخر القرن الثامن عشر في بولندا التي كانت ترزح تحت الاحتلال الروسي، وفي القرن التاسع عشر صاغ المفكر البولندي برونيسو ترينيوفسكي مصطلح الانتلجنسيا (المفكرون) للدلالة على الطبقة الاجتماعية المتعلمة والنشطة مهنياً من البرجوازية الوطنية، التي يمكن ان يكون افرادها قادة ثقافيين، ليشهد هذا المصطلح انتعاشاً ورواجاً كبيرين في العالم ومنه عالمنا العربي، وليشق طريقه إلى العراق مهد الثقافة العربية الاسلامية، وبالفعل تحشد مجموعة من الشعراء والكتاب والصحفيين والوطنيين وشمروا عن سواعدهم في رحلة تبني الثقافة ومن مناهلها المتعددة الغربية والشرقية، الادبية والسياسية والفنية في محاولة لإيجاد حيز حقيقي لتبني المصطلح عملياً، وانشؤوا تجمعات وأندية وإن حمل بعضها الطابع السياسي ذلك منذ عشرينيات القرن العشرين، فآنذاك ظهرت جمعيات اخذت في الانتشار كانت واجهاتها المقاهي والصالونات الادبية، وقد اشتهروا بملابسهم المميزة البذلة الغربية والطربوش والسيدارة، وكلامهم المنمق المزوق الراقي، وهذا ما جعل منهم بالفعل طبقة، ولا أعني تلك التي وردت بالتعريف اي البرجوازية، انما المتعلمة المثقفة التي تجيد الحوارات ووضع الحلول بعد طرح المشكلات، ومنهم اصحاب الرأي الصائب والسديد، الذي حاول اغلبهم وضع حد للشبهات والإشكاليات ومواكبة روح العصر والتطور، وقد اسهموا ايما اسهام بإثراء الحياة الثقافية والفكرية، لتظهر فئات مكملة لعمل الانتلجنسيا العراقية من الاكاديميين والمتعلمين الذين جمعوا بين المهنة والثقافة، فكان يشار إلى الطبيب العراقي المثقف بالبنان، فضلاً عن ظهور اصحاب الرأي
السياسي.
كانت حقاً فئة بارزة بدات تنمو في مجتمع جاهل كان بحاجة إلى الانقاذ من تدهور حاله وترديه، وعلى ما يبدو ان الحكومات المتعاقبة، وعلى الرغم من كونها وجدت في بعضهم خصوماً لها، الا أنها وجدت فيهم الوسيلة لبناء مجتمع متحضر متمدن، وعبرت عن حاجتها لهم في مجال التعليم والفن والاعلام، لا سيما بعد ظهور العلماء الانتلجنسيا المختصون بالاقتصاد والادارة والعلوم الطبيعية هؤلاء الذين عجلوا بانتقال العراق إلى مرحلة بشرت آنذاك بمستقبل واعد لولا سيطرة الدكتاتورية القمعية على الحكم، التي قمعت الافكار واصحابها وحولت الانتلجنسيا إلى طبقة داعمة للنظام، ومع الاسف ظهر منهم المتملق للسلطة لتختفي الروح الوطنية لدى بعض منهم وتحل المصلحة، ومع تهاوي المجتمع وانحدار الثقافات وسيادة اصحاب المحتوى الهابط، اضمحلت الانتلجنسيا ولم يعد لها مكان واهملتها الحكومات المتخلفة، ومن جانبه احتضن المجتمع فكر التطرف الديني والمذهبي ولم تعد روحه ثقافية شفافة، وتحول شكله إلى معادٍ للكتاب والثقافة، فقد قلَّ الطلب على الكتاب أو انحسر الا ما ندر، وشُجعت افكار السفاهة والفكاهة التي هي في الأصل غير منتجة وسادت تحت عنوانات الترفيه وفي حقيقتها فضة جاهلة متخلفة صنعت جيلاً اقرب إلى التفاهة وفاقداً للوعي والتحضر، يلهث مثل المجنون وراء التفاهات ويعشق البذاءة والانحلال هكذا لم يعد للانتلجنسيا راعية الهوية وقائدة المجتمع ووعيه اي وجود الا النزر اليسير؛ ربما ننتظر من يحتضن بقاياها قبل أن تنقرض وتضيع هوية المجتمع، فلقرون قاد المفكرون المتنورون بلدانهم، وكانوا طلائع الانقاذ والوسيلة الناجحة الناجعة لتجاوز المجتمع الازمات وان تصبح دولتهم في مصاف الدول المتقدمة فوجودهم المتفهم لحركة المجتمع وطبيعته واحتياجاته هو الترياق، الذي يداوي امراضه من تخلف وضياع وجهل وتطرف عشائري وخرافات، فالعلم دليلهم والعقل مدرستهم ومتبنياته سلوكهم فأين انت يا انتلجنسيا
العراق؟.