الهوية الوطنية.. مؤتمر علمي يعزّز بناء الدولة
بغداد: محمد إسماعيل
تصوير: كرم الأعسم
أقامت المستشارية الثقافية لرئيس الوزراء أول نشاطاتها المعنية بأصل الأزمة العراقية وما تلاها من أزمات ومشكلات أوصلت البلاد إلى المزيد من الجدل المستمر منذ عقود طويلة، جدلٌ أفضى إلى جدل تيه مضنٍ لم ينهه الجهد الفردي لمثقفين داخل وخارج العراق للبحث عن إجابة لواحدة من أعقد أسئلة الدولة العراقية، ما هي الهوية الجامعة؟ وكيف تعزز؟
مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية الشاعر عارف الساعدي، الذي دعا إلى تحويل المؤتمر إلى جلسة عصف ذهني، في قاعة فندق بيليتوم وسط بغداد يوم أمس، كتب في مقدمة الدعوة إلى المؤتمر الذي تناول المشاركون خلاله عدة أوراق بحثية، "ما هي الهوية الوطنية الكبرى الجامعة؟، هل هي الدين، أم اللغة؟ أم العادات؟ هل نملك كعراقيين هوية جامعة لنا نتوحد بها وننطلق منها؟ أم أننا شعوب متعددة وأمم مختلفة تجمعنا الجغرافيا ويفرقنا
التأريخ؟".
لافتة المؤتمر حملت عنواناً للمحورين الرئيسين للحدث، "حوارات في بناء الدولة والأمة.. نحو رؤية لصياغة هوية وطنية راسخة"، إذ حمل المحور الأول: "الهوية الوطنية في العراق.. منظورات نفس اجتماعية" أدارها د. مؤيد صوينت، وتحدث فيها د.خالد عبد الإله عبد الستار، ود. لؤي خزعل ود. عدنان صبيح ود. علي طاهر، فيما جاء المحور الثاني تحت عنوان "بناء الدولة والأمة في العراق.. تناقضات السياسة وتجاذبات الأثنوطائفية" بإدارة د.علي المرهج، وبمشاركة كل من د.علي فارس، د.إلهام مكي، مازن الزيدي، د.سعد سلوم.
أسئلة ملحة
المستشار الثقافي عارف الساعدي، قال: إن المستشارية الثقافية لرئيس الوزراء، حريصة على "إقامة المؤتمر العلمي المتخصص بالهوية الوطنية والذي يحدث للمرة الأولى على مستوى رئاسة الوزراء"، لافتاً إلى أن حضور المؤتمر "نخبة من أساتذة العراق، الدكاترة الأكاديميين، والباحثين المهتمين بالوصول إلى معالجة جادة للهوية الوطنية وتداخلاتها ومرجعياتها".
وأضاف الساعدي في كلمته، "تهتم تلك البحوث بصعود الهويات الفرعية ومزاحمتها الهوية الوطنية الكبرى، ثم تهتم بالإجابة على السؤال: ما هي الهوية الوطنية الجامعة؟ هل هي الدين؟ أم اللغة؟ أم العادات؟ هل نملك كعراقيين هوية نتوحد بها وننطلق منها؟ أم أننا شعوب متعددة وأمم مختلفة تجمعنا الجغرافية ويفرقنا التاريخ؟ هل سومر وبابل وآشور وأكد هويات حضارية تجمعنا، أم أنها هويات نهرب إليها بعيداً عن حاضرنا المأزوم".
وتابع الساعدي بالقول، "وبعيداً عن الدين والطائفة؛ نلوذ بحمورابي ونتكئ على كلكامش ونحنُّ لسرجون الأكدي؟" لافتاً: "تعلمنا قبل أكثر من ثلاثين عاماً في مدارس الدولة القومية، فكانت هوية البلد قومية عروبية واضحة، من اسم الشارع إلى اسم المدرسة إلى القصيدة الموجودة في المطالعة إلى جملة الإعراب وحتى أمثلة
الرياضيات".
يلفت الساعدي أيضاً إلى أنه "بعد 9 نيسان 2003 هل نملك هوية واضحة ومحددة؟ هل نحن عروبيون أم دينيون أم مذهبيون أم علمانيون؟ هل نحن أبناء الديمقراطية أم أبناء الديكتاتورية أم أننا أضعنا الطريقين؟ وإن كنا قد أضعنا الكثير هل بإمكاننا أن نحافظ على أبنائنا ونصوغ لهم هويتهم الجامعة؟ أم أن الهويات لا تصاغ، إنما تخلق مع البيئة والعادات؟ ولكننا كما أظن باستطاعتنا أن نزرع جزءاً من الهوية الوطنية الجامعة في عقول الطلبة وقلوبهم من خلال المنهج الدراسي بعد أن يتفق الباحثون على تلك الهوية؛ أملاً بصناعة بلد خالٍ من التطرف ومؤمن بالعيش السلمي والتنمية المستدامة".
تفاءل المستشار الثقافي لرئيس الوزراء: "باستطاعتنا زراعة هوية في عقول الطلبة، وفي بناء البيوت وواجهات المباني والطعام والأزياء والأغاني؛ كي تتبلور هويتنا" داعياً إلى إنطلاق عصف ذهني للخروج بتوصيات ترفع إلى رئيس الوزراء محمد السوداني.
واستهل د.مؤيد صوينت، إدارة الجلسة الأولى، بكلمة قال فيها "ننوء بزمن تشظت فيه الهويات، لدينا مواد متنوعة؛ سيتفضل بإلقائها باحثون متخصصون.. كل منهم يرى الهوية من جهة نظره، خاصة الهوية الجامعة بعيداً عن التشظيات".
هوية واحدة ام تعددية؟
المدير التنفيذي لمركز البيان للدراسات والتخطيط د. علي طاهر الحمود، ركز على إبراز قناعات قطاع واسع من مثقفي العراق ضمن ورقة بحثية حملت عنوان "بناء الأمة العراقية.. الطريق غير المكتمل لهوية وطنية راسخة"، أعقبه د. خالد عبد الإله، بتكثيف بحثه حول: "تعددية الهوية العراقية بين التاريخ والتنوع الثقافي.. رؤية فكرية نقدية" أشرت الفهم المتوارث الذي بات يصطدم بتعددية الأطر التي تتشكل منها ثقافة المستقبل.
واستجمع د. سعد سلوم، رؤاه في البحث بشأن: "الوحدة في التنوع.. سؤال الهوية في مجتمع تعددي" ورسخ د. عدنان صبيح ثامر، الدور الحكومي في نشأة الهوية وتبلورها، عطفاً على ما ترسب في ذاكرة المجتمع، من خلال بحث دراسي تحت عنوان: "نحو مؤسسة رسمية للذاكرة العراقية.. التواصل المخطط مع الجمهور لصناعة هوية وطنية".
اما د. إلهام مكي، فأشارت إلى التنوع الجندري في بحث: "الجندر.. النوع الاجتماعي العابر للتكوين الجنسي.. وبناء الهوية الوطنية"، وهو ما حظى باشتمالات سوسيولوجية.. اجتماعية معقدة، أعقبها مازن الزيدي، بكشف: "المكبوت والمسكوت عنه في إشكاليات الهوية الوطنية".
وتناول د.علي فارس "بناء الأمة في العراق.. رؤية في ترشيد السياسة وتحديات دولة المواطن"، بينما بحث د. لؤي خزعل في "الهوية الوطنية العراقية.. عقلنة الهويات والتقاليد البنائية".
الحاجة إلى هوية
رئيس اتحاد الأدباء والكتاب علي الفواز، أشار إلى أن"المؤتمر يجسد حاجة أساسية لمناقشة قضايا إشكالية، مثل الدولة والأمة والهوية، والتي تتطلب بالضرورة مقاربات مهمة تخص ما هو سياسي، لا سيما أن هذه القضايا ارتبطت بتاريخ مأزوم وصراعات عميقة انعكست على تشكيلها المفهومي للدولة والأمة".
وأضاف الفواز في مداخلة له "هذه الهوية ظلت تختزن كثيراً من تلك الصراعات لا سيما الصراع الذي ارتبط بالهيمنة والسلطة وهويتها الجامعة، وأحسب أن فتح الأفق لمثل هكذا حوارات سيضعنا عند التعاطي مع استحقاقات مفتوحة لإعادة ضبط المفاهيم واستعمالاتها"، معتبراً أنها "تصوغ عقداً ثقافياً ووطنياً يؤسس تلك القضايا ويضعها في السياق التواصلي الذي يكفل نجاحها في تأسيس الانتقالات الحقيقية من الدولة الضعيفة إلى الدولة القوية، ومن المجتمع الهش إلى المجتمع المتماسك، ومن الأنوية الطاردة إلى الجمع الفاعل والقادر على احتواء المكونات الوطنية والعرقية في إطار فاعل وحقيقي وإنساني".
بدوره، قال وكيل وزارة الثقافة والسياحة والآثار د.عماد جاسم :إن "هذا المؤتمر، مبادرة باتجاه تأكيد الحضور الأكاديمي، ومد جسور التواصل مع المثقفين في إطار مناقشة ملفات مهمة تدعم توجهات الدولة في ترسيخ الهوية الوطنية العراقية وتسليط الضوء على المشكلات التي تعتري البلد".
البداية من الطفولة
مدير المركز العراقي لثقافة الطفل د. كاظم عبد الزهرة: أشار إلى أنه "من الضرورة بمكان أن يهتم رئيس الوزراء بالقضايا المتعلقة بالهوية الوطنية" موضحاً: "تعد هذه المؤتمرات مفتاحاً مهماً لفتح الطرق باتجاه تأكيد هوية وطن من خلال مقررات ينوي رفعها إلى مجلس الوزراء هي بالتأكيد هوية تدمج بالمناهج العراقية، وهذا يتطلب رؤية متوازنة تراعي اكتظاظ اللوح الدراسي بالمواد".
عضوة مجلس نقابة الصحفيين د.زهرة الجبوري تطرقت في مداخلة لها إلى الظروف الموضوعية المحيطة بسؤال الهوية الكبير، " كيف نبني الهوية الوطنية؟ وأطفال العراق ينامون بالعراء جياعاً.. كيف أبني الهوية الوطنية في عقول أطفال العراق الذين هم على شفا أمية شبه إلزامية بسبب فقر العائلة وتراجع التعليم الحكومي الذي بات يقترب من أن يكون تعليماً في العراء".
وتابعت الجبوري في ذات الموضوع الذي يتعلق بالتأسيس على الطفولة، أن "الواقع يبين افتقار الطفل لأبسط حقوقه، فما الذي يحرمه حتى من الجلوس على رحلة أنيقة أو مريحة؟ كيف أبني الهوية الوطنية وفكر "داعش" موجود في عقول أطفالنا في المناطق المحررة والتي تعد قنابل مؤقتة تنفجر بأية لحظة؟ كيف أبني الهوية الوطنية وأطفالنا يجهلون تاريخنا وحضاراتنا بفعل التكنلوجيا غير المشروعة والتي دخلت بيوتنا من دون استئذان؟ كيف أبني الهوية الوطنية ودرس الوطنية أصبح من الماضي ولايهتم به التربويون".
الحل في حكومة الإنسان
الباحث إبراهيم العبادي، اعتبر المؤتمر: "خطوة جريئة وممتازة، وهي أن تتواصل الجهات التنفيذية وصناع السياسات مع النخبة المثقفة في البلاد، فلطالما اشتكى المثقفون والأكاديميون من التهميش وعدم القدرة على التواصل مع النخبة السياسية الحاكمة، ولطالما اشتدت حاجة السياسيين إلى الاسترشاد برؤى وأفكار النخبة الثقافية".
وذكر العبادي في مداخلة له أنه "لا يمكن أن تستطيع الدولة بمؤسساتها ورجالها أن تكتفي بما عندها من تصورات، وأن تقوم بإهمال الجسم الثقافي في البلاد بدعوى نرجسية ومثالية المثقفين؛ فإحدى وظائف الدولة هي إجراء سياسات رمزية ذات أبعاد ثقافية تتصل بروح الأمة وهمومها الفكرية وتطلعاتها الأخلاقية". ورجَّح: "أرى أن تجسير العلاقة بين السلطة والنخب هي خطوة واعدة لعمل مشترك ينبغي الصبر عليه ورعايته وتنميته، من أجل بلوغ الأهداف التي يصبو إليها الجميع وفي مقدمتها بناء دولة الإنسان/ المواطن الفعَّال المشارك في تقرير مصيره وتحسين واقعه والعمل على صناعة مستقبله".
بدوره، قال الشاعر موسى أحمد: إن "شكل بناء الدولة العراقية منذ العشرينيات شهد تقلُّبات ثقافية وحكومية تفسِّر شكل الدولة الحالي أيضاً"، فيما ألمح الشاعر د. حسن عبد راضي إلى أن "الدولة العراقية بحاجة لمشروع يعمق بناءها، وهذا يتطلب جهداً لا يتوفر إلا باستقطاب الأكاديميين والمثقفين وقادة الرأي؛ لتقديم الرأي وإعطاء المشورة، إذ يتأسس بناء الدولة بجهد يبدأ من صانعي الرأي وينتهي إلى طاولات
صانعي القرار".
تحرير: علي عبد الخالق