رعد أطياف
لا اعتقد أن ظاهرة الغلو التي تنتشر بين صفوف بعض الفئات الدينية ستنحسر لمجرد التنديد بها، ذلك أن ما يسمى «اصحاب القضية» ليسوا هم إلا تمثيلا لخطاب بات ينتشر بشكل جنوني بين عموم خطباء المنبر الحسيني، عبر الاستناد إلى روايات اسطورية تنزع إلى تأليه الأئمة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تشكل البيئة القبلية مناخاً خصباً لشيوع هذه الظاهرة عبر الضخ المتواصل لتأليه الأشخاص والإعلاء من شأنهم. وينتج عن هذه المأساة نفور غريزي من العمل المؤسسي والتركيز على الجانب الشخصي. وتتحول فئات ليس بالقليلة إلى “أصحاب قضية”، ليس عليهم إلا التفوه ببعض الخرافات، فهذه الأخيرة تمتلك مفعولًا سحرياً لمن لا رأسمال لهم سوى الخرافة.
إن البنية الأسطورية التي تخترق ذهنية الفرد العراقي وتشكل مجمل أحكامه قائمة على هذين العنصرين، أعني الروايات الأسطورية والثقافة القبلية. إنها خلطة سحرية للمغالين وأرباب الخرافات، وبيئة خصبة لكل الأهواء العنيفة التي تجعل من العقل أعدى الأعداء.
من سوء حظ العراقيين أنهم وقعوا تحت هيمنة هذه البنية الثقافية. لذا لا يكفي التنديد ما لم تتوفر إرادة حقيقية لتفكيك التراث الروائي وإصدار الفتاوى الفقهية التي تحرم هذا النزوع الجنوني إزاء تأليه الأئمة والرموز الدينية. وأتذكر في هذا الصدد حديثاً للإمام جعفر بن محمد الصادق يقول فيه “إياكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون واذكروا من فضائلنا ما شئتم”. ويظهر من هذا الحديث مقدار المحنة التي كان يكابدها أئمة أهل البيت من شرور الغلاة.
لا أعرف وجه الحكمة بالضبط حول سكوت ذوي الشأن عن ظاهرة انتشار الجهلة من خطباء المنابر. حتى أن المرء يتساءل عن الأصول الشرعية التي تبيح لهؤلاء الخطباء نشر الغلو أمام مرأى ومسمع أهل العلم.
إن الحرص على الدين يبدأ بمحاربة البدعة، رغم أننا، وبسبب هذا السكوت، لم نعد نفرق بين البدعة وما أجمع عليه القوم، لم نعد نفرّق بين الحقيقة وأضدادها. فأمامنا عمل مجهد لتحليل الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.
ثمة هوس غريب ابتُليت به ثقافتنا وهو الإسراع إلى محاكمة النتائج قبل تحليل الأسباب. ولا يخفى ما يترتب على هذا الارتجال من آثار مُرّوِّعَة أقلّها ستحوّل التاريخ إلى مجزرة حافلة بالترقيعات.
إذ يندر أن تعثر على رؤية متبصّرة لتحليل المشاكل وإيجاد الحلول اللازمة لها. لا نولي أهمية للتربية والتعليم من حيث المضمون، ولا نفصل فصلاً حقيقياً بين القرارات الاقتصادية و القرارات السياسية، وينتج من هذا شعباً لا يمكنه الائتمان على نفسه فضلاً عن الآخرين، وستكون النتيجة شيوع الخرافات وتفشي روح الغلو، ثم نضع هؤلاء في السجون! ولو قمنا بتحليل هذه الظاهرة، فلا استبعد أن نسبة الأمية والفقر ستكون صادمة بين صفوف هؤلاء. صحيح أن الروايات الضعيفة التي يتبرع بها بعض خطباء المنبر تلعب دورًا ليس بالقليل بشيوع ظاهرة الغلو، لكن علينا ألا ننسى بلدانًا يشكّل فيها التشيع نسبة كبيرة؛ مثل لبنان، والإحساء والقطيف في السعودية، فضلًا عن إيران الدولة الحاكمة باسم المذهب الشيعي.
هل سنعثر عند هذه الأمثلة المذكورة على مؤشرات لظاهرة الغلو اللهم إلا الأصول التاريخية المشتركة التي تشكل الإطار المذهبي للتشيع؟
اعتقد لا توجد مقارنة بين هذه الأمثلة وما يحدث في العراق. التربية والتعليم والاقتصاد هما الخطوة الأولى نحو الحل، ونحن ننتظر بفارغ الصبر بروز نخبة علمية من الخبراء والمفكرين لتدشين رؤية واضحة ومتبصرة تهتم بسياسة التربية والتعليم والاقتصاد، ونبتعد عن القرارات الارتجالية التي تخلخل مؤسسات الدولة. ولحين ظهور هذه النخبة فإن الفقر والتخلف وشيوع الخرافات سيطيح بكل منجز.