أ.د عامر حسن فياض
ماذا نريد عندما نكتب عن عالم متغير؟ هل فهم التغيير الذي يحصل أم تشخيص أم معالجة تداعياته؟ نعم بالتشخيص نحاول التوصيف لما يحصل وبالتوصيف نجذر ما يحصل منذ إن قام العالم على مسارين، هما مسار التعاون ومسار الصراع والتنظير لمعادلة التعاون والصراع، بدأ مع إجابات العقل الانساني منذ فجر التاريخ، حتى يومنا على أسئلة خمسة حددها المؤرخ الانجليزي (فرانكلين بلومر) في مقدمة كتابه عن تاريخ الفكر الاوربي بـــــ (ما الخالق؟ ما الطبيعة؟ ما الانسان؟ ما التاريخ؟ ما المجتمع؟).
والاجابات عن هذه الاسئلة تنوعت وتوزعت وتفرعت بين علوم رئيسية وفرعية كعلوم الاديان واللاهوت والعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية، التي نشهدها في عالمنا اليوم، وهي تتجذر وتتجدد.
ولقد وظف العقل الانساني كل طاقاته ليستعين على التوالي تفسيرات اسطورية ثم دينية ثم علمية معرفية، ليجد اجابات لتلك الاسئلة.
وقد تحكمت في التفكير الانساني نطفات مرجعية تظهر وتتوارى وتظهر تتلخص في مفردات تحكمت في تاريخ التفكير الانساني منذ فجر التكوين، وكان العقل يخزنها ويجترها على امتداد سني حركة التاريخ حتى يومنا هذا.
وتلك المفردات المرجعية هلي (الخلود) عند المصريين وملحمة (الخلق والتكوين) عند العراقيين، وقصة (الانسجام مع الطبيعة) عند الصينيين والهنود، وفكرة (القانون) عند الاغريق، وايقونة (النص) عند المسلمين، وعلوية (العقل) عند الغرب الحديث.
وتلك المفردات تحكمت في انشغالات العقل الانساني، وهو يجيب عن الاسئلة الخمسة الرئيسية، حتى يومنا ضمن مساري التعاون والصراع، وقد بقيت هذه الاسئلة في دائرة الثابت بينما دخلت اجوبتها في دائرة المتغير.
فالخلود ثابت دخل في دائرة الفعل المتغير مرة خلود بالقول واخرى بالفعل وثالثة بالموقف ورابعة بالفكرة..الخ، وهكذا بالنسبة لكل نطف التفكير الانساني كالانسجام مع الطبيعة كثابت جذرته العقلية الصينية والهندية والقانون كثابت جذرته العقلية اليونانية، والنص كثابت جذرته العقلية الاسلامية والعقل كثابت جذرته العقلية الغربية.
العالم يتغير وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها ولكن اين نحن؟ والعالم مُقدم على إنقسام جديد لصالح الصراع وليس التعاون كما هو الحال منذ وستفاليا عام 1648 حيث الصراع بين الملوك والاباطرة والامراء كما يذهب المفكر الامريكي(صموئيل هنتجتون) في كتابه (تصادم الحضارات)، لينتقل بعد وستفاليا إلى صراع بين رموز الامم والقوميات بعد الثورة الفرنسية ثم صراع بين النازية متحالفة مع الفاشية العتيقة مقابل تحالف الغرب الرأسمالي الليبرالي والشمولية الستالينية اثناء الحرب العالمية الثانية، ثم بين الشمولية الشيوعية والغرب الرأسمالي خلال الحرب الباردة.. أما القادم القائم فانه، سيكون صراعاً بين تحالف كونفوشيوسي (صيني) اسلامي (ايراني) ارثذوكسي (روسي) مقابل عصابات القلة الرأسمالية الغربية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.
نعم ان العالم يتغير ليكشف لنا خدعة الديمقراطية وحقوق الانسان الامريكية لان الديمقراطية بالصيغة الامريكية على حد قول المفكر الامريكي (نعوم تشومسكي) في كتابه (بلاد العم سام) تُنطق باللسان الامريكي (افعل ما تريد لانك تفعل ما نريد !)، ولهذا اثبتت التجربة أن الولايات المتحدة الامريكية هي حليف غير موثوق به من قبل الشعوب.. كما اثبتت التجربة ان خارطة عالمنا اليوم تؤشر إلى أن الاخلاق في السياسة ما عاد لها مساحات وازنة بل الواضح ان بقايا اخلاق في السلوك السياسي تتمتع به دول غير الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي المتوحش، حيث الغرب الاوربي الخرف حالياً مُدان بالارث الاستعماري القديم والولايات المتحدة الامريكية متهمة ومُدانه ايضاً بالنهب الاستعماري الجديد، وصولاً إلى الرأسمال المتوحش المتعطش للدم والثروة والرذيلة.. العالم يتغير ليكشف عورات اقطاب الرأسمالية المتوحشة، وليودع معادلة تتحكم في مصير الشعوب مختصرها (الهيمنة والتبعية)، وليستقبل وليرحب بمعادلة عالم متعدد الاقطاب ليرتقي الجميع إلى قمة عريضة لا قمة مدببة كان يتربع عليها قطب واحد يريد لنفسه الهيمنة ولكل غيره التبعية.. عالم يتغير ليودع الحصارات والعقوبات والتجويع والاعتداءات البشرية لتخريب البيئة ونشر معامل صناعة الاسلحة الجرثومية... العالم يتغير لنصبح جميعاً امام مصطلحات جديدة في عالم السياسة العالمية، فمثلما أن الديمقراطية الحقة على المستوى الوطني لا تستقيم دون التعددية فان الديمقراطية على المستوى العالمي لا تستقيم باحتكار الاوامر والنواهي من قبل قطب واحد أحد لا شريك له! ولأن القلة الرأسمالية العالمية المتوحشة منتظمة وغير مبعثرة فنحن نريد للشعوب أن تكون منتظمة وغير مبعثرة، لتكون السيادة العالمية لها.. ولأن الصراع بين من يعرف ومن لا يعرف نريد للشعوب أن تكون عارفة تجيد استخدام المعرفة وانتاج المعرفة وحتى احتكار المعرفة، بدلاً عن احتكارها من قبل عصابات القلة الرأسمالية المتوحشة.
وعلى العراق العمل على تخضير الوطنية دون تركها للتصحر بعقل شعب يتجنب النأي بالنفس عن الحق، ويقف بالضد من القطبية الاحادية ومن سباق التسلح والاحلاف العسكرية ومن انتشار الاسلحة النووية ونشر القواعد العسكرية واسلحة الدمار الشامل.. ويقف مع حوار الحضارات وتعاونها لا تصادمها.
نعم العالم يتغير ومن لايريد ان يفهم ذلك فان عقله سوف يتقي مخاوف ولا ينتج معارف.. وأن بدنه سينزلق في واقع سلبي ويعيش الوقعية لا الواقعية في التفكير والسلوك.