غياب اليوم الوطني يعيد طرح سؤال {الهوية}
أحمد نجم
تصوير: خضير العتابي
باستثناء رأس السنة الميلادية والحادي والعشرين من آذار، لا يوجد يوم ميلادي آخر اتفقت الأنظمة السياسية المتعاقبة على اعتباره عطلة رسمية، والطريف أن اليوم الأول لا يمثل أي خصوصية وطنية للعراق بينما عد الحادي والعشرون من آذار عيداً للشجرة من قبل الملك فيصل الأول وأفرغ من محتواه ورمزيته كعيد رافديني قديم احتفلت به مختلف الحضارات العراقية وتأثرت به الحضارات المجاورة لاحقاً، لذا استمرت الدولة العراقية تحتفل ببرود خلال هذا اليوم ومن دون العمل على تأصيله كتراث رافديني أصيل.
عادة ما يطرح الاحتفال بالأيام والمناسبات الوطنية فكرة "الهوية" والدلالات التي يراد ترسيخها في ذاكرة الأجيال لتعبر عن طبيعة المجتمع وتاريخه وتراثه، ومن خلال تلك الفعاليات تسعى مؤسسات الدولة لجعلها ذات تأثير ممتد وليست حدثاً مؤقتاً يزول دوره وأثره بانتهاء المناسبة، لذا فإن غياب الأيام أو المناسبات الوطنية يعد مظهراً بارزاً من مظاهر غياب "الهوية" وبروز الهويات الفئوية والفرعية، لدرجة أن عيد الأكيتو الرافديني القديم والذي سبق المسيحية بآلاف السنوات صار يتم التعامل معه بمثابة عيد خاص بالمكون المسيحي ليأتي ذلك انسجاماً مع تفتيت المجتمع وتغييب رموزه ومناسباته الجامعة وتوزيعها بين المكونات والطوائف.
رمال متحركة
ليست العطل الوطنية فحسب، فالعلم والشعار الرسمي والنشيد الوطني وأسماء المدن والأحياء والساحات والشوارع والمؤسسات والمدارس ومحتويات المناهج الدراسية وغيرها الكثير قد ارتبطت بهوية السلطة الحاكمة وليس بهوية وتاريخ البلد وبنيت على رمال متحركة ما تلبث أن تستقر حتى تداهمها عاصفة وتفتتها لتعيد بناء سرديتها الخاصة مجدداً.
بينما كان العراقيون يحتفلون سنوياً بمناسبة ذكرى ميلاد الملك ويوم تتويجه، فرضت عليهم السلطة بعد سنوات قليلة الاحتفال بذكرى يوم الثورة وهو يوم مقتل الملك وأسرته في مجزرة عدت من أبشع المجازر بحق الأسر الملكية في القرن العشرين، وإذا كان الاحتفال بالمناسبات الشخصية للحاكم طبيعياً في الأنظمة الملكية، فإنه لم يكن طبيعياً أبداً في ظل الأنظمة الجمهورية، إذ قرر مجلس السيادة أواخر العام 1959 اعتبار يوم مغادرة الزعيم عبد الكريم قاسم للمستشفى عيداً وطنياً سمي (يوم السلامة والابتهاج)، وتمادى صدام حسين أكثر حين اعتبر أن يوم ميلاده المفترض عطلة رسمية في البلاد تتزين فيها المدارس والمؤسسات والشوارع والصحف والقنوات.
والحال ذاته قد واجه بقية المظاهر الأخرى فأسماء الشوارع تتغير باستمرار والساحات والأحياء ترتدي مع كل نظام جديد ثوباً جديداً لا يناسب حجمها التاريخي، أما الأعلام والنشيد الوطني فكثيراً ما كانت تستمد من خارج حدود وتراث البلد.
صراع الهويات
وصف الباحث المتخصص الدكتور لؤي خزعل جبر حالة عدم الاستقرار في اختيار المناسبات الرسمية والأعلام والرموز وغيرها بكونها مظهراً بارزاً لضعف الهوية الوطنية ويعزو ذلك إلى "تنشيط السلطات بقصد أو بدونه للهويات العابرة والمنسية"، ويؤكد أن "الهوية الوطنية ركن أساسي لبناء الاستقرار السياسي والاجتماعي، كما أن امتلاك هوية إيجابية يعزز تقدير الفرد لذاته ولذلك نجده يكافح لتحقيق وإدامة هوية اجتماعية إيجابية، وعندما تكون الهوية الاجتماعية غير مرضية، فإن الأفراد سيكافحون أما لرفع مكانة الجماعة أو لترك الجماعة الحالية واللحاق بغيرها".
ويضيف جبر بأن "المجتمعات التعددية مثل العراق بحاجة أكثر من غيرها للهوية الوطنية، لأنها ضرورية للتعايش الاجتماعي وبناء الدولة، فالدولة بنية يفترض أن تقوم على الهوية الوطنية ومؤسساتها هي أمكنة هذه الهوية، وبغيابها أي بهيمنة الهويات العابرة والفئوية تتفتت تلك البنية".
بينما يرى الكاتب والصحفي يوسف المحسن أن تشكيل الدولة العراقية الحديثة قبل أكثر من قرن قد تم "نتيجة دمج مجاميع بشرية متباينة من طوائف وقوميات متعددة ولها هوياتها الخاصة والمغلقة وقد حملت تلك الهويات من الصلابة ما جعل الطبقات الاجتماعية العراقية عاجزة عن التبلور كنواة سياسية، إذ ما زالت البرجوازية الوطنية العراقية تعاني من أزمة تكوين مزمنة وما أن تتشكل الطبقة الوسطى بشكل واضح حتى تنهار مرة أخرى وتبرز مجدداً الولاءات والتوجهات للهويات الفئوية".
الهوية الحضارية
في سعيه للبحث عن هوية وطنية جامعة، يتحمس الباحث الآثاري عامر عبد الرزاق للهوية الحضارية الرافدينية ويعمل بجهد كبير على ترسيخها مجتمعياً ورسمياً ليس فقط لأنها أقدم وأشمل وأكثر حياداً تجاه مختلف الهويات الأخرى بل لما فيها أيضاً من تميز وثقة.
ولكنه يشير بأسى لغياب الربط بين الفرد العراقي ورافدينيته نتيجة غياب التأصيل للهوية الرافدينية العراقية "والذي من المفترض أن يبدأ من التنشئة في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية، إذ إن نجاح تأصيل تلك الهوية من شأنه أن يخلق أجيالاً متمسكة ببلدها ومعتزة بتاريخه ومنتمية له معرفياً وحضارياً".
ويؤكد عبد الرزاق ضرورة فك الربط الحاصل في أذهان المجتمع بين الأنظمة السياسية والحكومات من جهة والأعياد والمناسبات الوطنية من جهة أخرى، لأن ذلك الربط الوهمي قد أسهم بخلق أجيال قليلة التمسك بهويتها الحضارية.
التلاعب بالهويات
يرى الباحث د.لؤي خزعل جبر أن الدولة العراقية الحديثة لم تؤسس هوية وطنية حقيقية بل سعت في معظم الفترات إلى التلاعب بموضوع الهوية الوطنية لغرض تحقيق الهيمنة "إذ إن الهوية لا تحمل معنى إيجابياً دائماً، فقد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا كانت تلك الهوية تحمل غايات اندماجية قسرية ومبنية على قمع هويات الجماعات الداخلية وهذا الأمر هو ما سبب نفوراً لدى تلك الجماعات وشدة تمسكها بخصوصياتها الثقافية"، ومع ذلك فإن المجتمع متقدم على الدولة في وعيه بترسيخ الهوية الوطنية بحسب الباحث.
ويشير الكاتب يوسف المحسن إلى أن فشل النخب السياسية والثقافية العراقية بعد عام 2003 أعاد إنتاج هشاشة المجتمع العراقي القائمة على العلاقات العصبوية والمذهبية والأقوامية وما عزز ذلك هو فقدان المشروع السياسي العراقي لقدرته على إنشاء مجتمع مدني وسياسي حديث.
قانون اليوم الوطني
عادة ما ارتبطت المناسبات الوطنية خلال الأنظمة المتعاقبة على حكم البلد بالمناسبات الشخصية للحكام أنفسهم أو تواريخ الثورات والانقلابات، وهي مناسبات فئوية ظلت عبر التاريخ محل جدل ورفض مستمر، أما بعد عام 2003 وبدء حقبة جديدة من التاريخ العراقي فقد أهملت الإشارة لليوم الوطني والهوية الوطنية خاصة مع طغيان الهويات الفرعية والفئوية وتسيدها المشهد العراقي. اقترح عدد كبير من الباحثين والمثقفين العراقيين أن يكون الثالث من تشرين الأول وهو تاريخ انضمام العراق لعصبة الأمم عام 1932 يوماً وطنياً للعراق ولم يحصل ذلك اليوم المقترح على اجماع كامل لكنه حقق قبولاً واسعاً، خاصة أنه مرتبط باستقلال البلد وليس بنظام أو حاكم أو أيديولوجيا محددة، ومنذ حوالي خمس عشرة سنة لم يتم تمرير القانون رغم قراءته في مجلس النواب أكثر من مرة.
الآثاري عامر عبد الرزاق قدم مقترحاً آخر يخص اختيار اليوم الوطني وهو عيد رأس السنة العراقية القديمة والمعروف بــ "عيد اكيتو" وله مبرراته الكثيرة في هذا المقترح منها "كونه الأقدم تاريخياً من كل المناسبات الأخرى وذلك يشير إلى عمق وقدم الحضارة العراقية، كما أنه مقبول من الجميع ولا توجد عليه اعتراضات واضحة، ويعتبر أقدم من الديانات الحالية وما زالت تحتفل فيه مختلف المجتمعات العراقية مع اختلاف المسميات".
ميزوبوتوميا
وعلى مستوى أشمل فقد قدم المفكر العراقي سليم مطر منذ أكثر من عشرين عاماً عدة مقترحات لتعزيز التمسك بالحضارة الرافدينية كان أبرزها الاستفادة من التجربة المصرية وتغيير اسم العراق في اللغة الإنكليزية إلى (ميزوبوتوميا mesopotamia) بدلاً من الترجمة الحرفية له (تستخدم مصر اسم egypt في اللغة الإنكليزية بدلاً من الترجمة الحرفية للاسم العربي) وذلك لأن اسم ميزوبوتوميا (وتعني بلاد ما بين النهرين) هو الاسم المعروف عالمياً وتاريخياً للعراق، ويهدف من هذا التغيير إلى تخليص العراق من التجاهل العالمي لأصوله التاريخية، فالعالم يعرف جيداً سومر وأكد وبابل وآشور ولكنه لا يربط بين تلك الحضارات العريقة والدولة العراقية الحديثة.
كما أنه يدعو للاهتمام بمناسبات حضارية مهمة أهمها ذكرى تأسيس أول دولة عراقية موحدة من قبل سرجون الأكدي (2250 ق.م) وذكرى اختيار الكوفة كعاصمة للدولة الإسلامية عام 36 هجرية بعد قرون من السبات الحضاري منذ سقوط بابل عام 539 ق.م، وذكرى تأسيس مدينة بغداد عام 762م والتي مهدت لعودة العراق لسابق مجده الحضاري.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة