الدم الأيديولوجي

آراء 2023/05/02
...

 حيدر ناجح 

لم تعد ثمة رابطة متمثلة بالدم كما في السابق، فنحن إزاء معانٍ وروابط أخرى متمثلة بالأدلوجة والعرق والطبقة والجندر، «وكل ما يشكل جزءا عضويا في المجتمع»، كل تلك الأشكال يمكن اعتبارها مجرد تمثلات حديثة لمفهوم القبيلة البدائي، أو تعويضات لغيابه، فقد حافظ المفهوم على بنيته، بينما أزيل هيكله.

البنية المتمثلة بالتعصب للرابط، فالتعاطي مع أي عمل شائن مثلا يتم بناء على الروابط مع مرتكب هذا العمل أو ضحيته، حيث الرابط أيّا كان ما يتخذه من اسم في العصر الحالي هو ما يحدد طريقة التعامل، فجريمة يقوم بها مسلم تجاه مسيحي (قد) تُبرر من قبل المسلمين، والعكس أيضا، بينما يتم صرف النظر عن دوافع الجريمة، الأمر كذلك بالنسبة لجرائم الفقراء مثلا ضد الأغنياء، لا سيما لو أن هذه الطبقة كانت تتسم بتقييم سلبي من قبل الطبقة الأخرى، فقد يلقى أي عمل سيئ بحقها، قبولا وتعاطفا، ولربما حتى إشادة، والعكس  كذلك.

فقد لا تحدث نقاشات موضوعية حول دوافع الجريمة، وإنما تكتفي قبيلة الجاني مثلا، بمكيجة الدوافع الإجرامية لو أنها حصلت تجاه فرد من قبيلة أخرى، كما تعمد على تشويه صورة الضحية ليكون تعاطفها منطقيا، ولا يكون تصرف ابن عشيرها يشكل لديها إحساسًا بالذنب أو العار، فهي تسلب حتى حق الضحية في وخز الضمير، فلكي يصبح التخلص من أي فرد أمرا مقبولا، لا بد من شيطنته وتجريده من إنسانيته، وهو ما يعتبره م. رودنسون الطابع الثنائي للأيديولوجية، أي إضفاء صبغة مثالية على الذات مقابل شيطنة الخصم، هذا التجريد يسبق الصراع أحيانًا، بصيغته الرمزية كالحط من شأن الخصم، أو تكفيره أو شيطنته وما شابه، وأحيانًا، ما بعد الصراع. 

ومثلما في القبيلة من مبدأ أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فهكذا الحال مع تمثّلاتها الحديثة، فالأخ الأيديولوجي كما القبلي، قد ينصر أخاه على أي حال، ولن تقف دون ذلك قيم أو غيرها، فلكل إيديولوجية قيمها الخاصة، ومحدداتها الجاهزة لما هو حسن أو قبيح. 

هذا في حال كان الدين –وهو ما يعدّ تمثلا قبليا– أحد مستويات الأيديولوجية، أو بعض مكوناتها، فالأمر نفسه.  

ذلك إن كل إنسان يحمل في جعبته طيفا واسعا من الدماء الملونة بألوان رايات مختلفة، دماء دينية، واخرى عرقية، وغيرها طبقية وسياسية والخ، لكن دم واحد، هو ما يطغى على بقية الدماء ويغيِّبها، حيث المتحكم هو نموذج الغاب، فما زال الإنسان يعيد إنتاج محتوياته القيمية والانفعالية والتعبيرية وما إلى ذلك، وفق قوالب الغابة نفسها، بينما يظن أنه غادر ذلك، فرابط الدم بالنسبة للإنسان المعاصر حل محله الرابط الأيديولوجي، أما شيخ القبيلة فهو زعيم إيديولوجيته، وهكذا بالنسبة لبقية العناصر تقريبًا، فنحن نستدعي أسلافنا في كل ما نروم القيام به.