مدنٌ بنزعة قبليَّة وعشائريَّة

آراء 2023/05/03
...

 غازي فيصل


إن مجتمع المدن العراقية يتميز بثقل موروثاته وتنوع ثقافاته وتعدد أجناسه،عاش منذ القدم في ود وصفاء، إذ تخبرنا كتب التأريخ أن التعايش والتودد والتواصل بين العراقيين في المدن كان مثالا يحتذى به، خصوصا كلما ابتعدنا عن الماضي تبدو الصورة صافية ورائعة، وكلما اقتربنا من التأريخ الحديث وجدت زيادة ملحوظة في حدوث مشكلات ومعضلات، إن مجتمع المدن العراقية اليوم يعبر عن حالات عقيمة نتيجة الاهوال التي مر بها، وقد اجتمعت عنده تراكامات من التناقضات وافتقد بعضا من انسجاماته وتعايشاته القديمة، بحكم تفاقم أسباب وتفاعل عوامل داخلية وخارجية على امتداد أربعة عقود مضت. 

ثمة حقيقة أخرى شهدها المجتمع العراقي تجسدت في نزوح أفواج كبيرة من أسر العشائر العراقية، منذ منتصف القرن الماضي إلى المناطق الحضرية الكبيرة، خصوصا إلى العاصمة بغداد، وهذه الهجرة لم تزح الولاءات القديمة عن مواقعها، وبالرغم من أنها نمت على حسابها، فهي قد تعايشت معها جنبا إلى جنب.

وقد نمت بفعل هذه التطورات قوة اجتماعية جديدة في المجتمع الحضري تمتد في ولاءاتها عميقا في الريف العراقي.

إن واقع العشائر -التي صارت بديلا عن الدولة-، هو نتاج تحكم قوى غير موسسية في البلاد، مما شكل ظاهرة التمركز الاثني والمذهبي والقبلي، الذي هو ميل الفرد إلى تفضيل جماعته على نظائرها الأخرى، من دون سبب عقلاني أو موضوعي. 

فالثقافة العشائرية والقبلية بما تحمله من قيم وعادات لعبت دورا في تشجيع عسكرة المجتمع العراقي، من خلال تشجيع التفاخر بالغالب، ومن هنا أصبح اشتراك الفتية والشبان في الحروب العشائرية أمراً طبيعياً، يعكس رجولتهم المبكرة. 

حيث تستخدم الأسلحة بوصفها مظهرا من مظاهر العزة والرجولة. 

وتبدي استعدادا ورغبة للصراع مع الاخر لأدنى الأسباب. 

وكذلك لعب النظام السابق على تشجيع القيم العشائرية واحيائها من اجل دعم سياسته في حماية الدولة ودفع الناس للأيمان بالحروب التي يشنها، وذلك من خلال غرس قيم الحرب في عقولهم وثقافتهم واستنهاض غيرتهم وحميتهم العشائرية والقبلية. 

«حيث اتخذت العشائرية أهمية كبرى عقب اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، لأن الطاغية كان قد استغل القيم العشائرية التي تدور حول معركة القادسية لتعبئة الجماهير، فالعسكرة غير المباشرة للمجتمع تكون ذات مرجعية ثقافية، كالمشاركة في الحروب والصراعات العشائرية،

و بعد سقوط النظام السابق في 2003 بدأت عسكرة المجتمع العراقي، نتيحة ظاهرة انتشار السلاح، والتي رافقت الهجوم الأمريكي على العراق، حيث عمل النظام السابق على تسليح المقاتلين والمدنيين العراقيين والعرب باسم الجهاد. 

وفي عام 2006 انتشر السلاح بصورة كبيرة وبطريقة منفلتة، بحيث أصبح ظاهرة ملموسة ويبدو ذلك واضحاً من خلالانتشار السلاح بشكل كثيف، وبأنواع مختلفة الخفيف منه والمتوسط في النزاعات العشائرية. 


عودة العرف العشائري

في ظل شعب مدجج بالسلاح مثل الشعب العراقي، له تاريخ طويل في خوض الحروب على مدى عقود من الزمن، برزت مراكز قوى متنفذة من اذرع مسلحة تمثلها العشيرة، هيمنت على بقية السلطات، لتصبح الركن الوثيق الذي يلجأ إليه الفرد حفاظاً على نفسه وكيانه من غياب القانون والدولة.