العنف وإعادة إنتاجه

آراء 2023/05/04
...

 نازك بدير * 


 قد يكون موضوع العنف من الموضوعات اللصيقة الصلة بالمجتمع العربي. التاريخ، في مراحله كافّة، بمثابة سجلّ لأحداث دامية ارتُكبت بحقّ الأبرياء. تمخّضت الأزمة المركّبة التي عرفها لبنان في السنوات الثلاث الماضية عن مشكلات اجتماعيّة ونفسيّة، ولعلّ المشهد الأكثر انتشارًا هو العنف الذي اجتاح الصغار وهذه ظاهرة خطيرة تؤسّس لمراحل أكثر قسوة في المستقبل. ثمة جيل الآن يبدو بعيدًا من حياة الطفولة والبراءة وينغمس في العنف سواء في حياة اللعب أو في أوقات الجدّ. بات هذا النمط هو المسيطر، وكأنّه معيار تُقوّم به الأمور ويُثبت به الطفل نفسه، إمّا أن يكون أو لا يكون، يتلقّى ذلك من أوساط بيئته ومن خلال الشاشة التي يتابعها والإعلانات التي تروّج للعنف وتحرّض على القوّة وتحضّ على امتلاك السلطة، ولو على كان ذلك على حساب حياة الآخر.

منذ عشرات السنين، تتنافس الشركات في إنتاج الأفلام الكرتونية والألعاب الالكترونية ذات المحتوى العنيف. والدول العربيّة تستورد تلك الأفلام والمسلسلات الأجنبية أو المدبلجة للأطفال وتعرضها. لكن اليوم للأسف انعكست الآية، وبات الطفل العربي هو الذي يصنّع بنفسه المحتوى العنيف مدفوعًا بما يراه يوميًّا بأمّ عينه من مشاهد بعيدة من الإنسانيّة ولا تراعي حقوق الطفل ولا العيش ولا الحياة ولا الكرامة! في بعض الأحيان، يتعرّض الطفل وهو في الرحم إلى العنف، إذ يتأثّر الجنين بردود فعل والدته تجاه التعنيف، كما في حال حدث ذلك وهو رضيع. 

يمكن القول، إنّ موجات العنف تنتقل إلى الأطفال عبر الهواء؛ على سبيل المثال عندما يكون هناك مجموعة منهم في إحدى رياض الأطفال، ويقع أحدهم ضحية تعنيف المربيّة (أو سائق الباص أو أيّ شخص آخر) فإنّ المشهد سيحفر في نفوس أقرانه ندوبًا من الصعب محوها.

المفارقة أنّ الأطفال في مجتمعنا الحالي ليسوا مجرّد ضحايا أو متلقّين للعنف، إنّما صاروا منتجين له، وقد يتقن بعضهم صنوفه منافسًا الكبار المعنّفين، أو ما يصادفونه في الشارع، وما يتابعونه في اليوتيوب وغيره من المنصّات.

تستفحل ظاهرة العنف وتستشري كالسُّم في مختلف مرافق المجتمع، ولعلّ ما يروّج لها و»يشرّع» وجودها ويجعل انتشارها مستساغًا هو المسلسلات التلفزيونيّة، نخصّ بالذكر تلك التي عُرضت في خلال شهر رمضان المبارك. وهي في مجملها أعمال ملطخّة بالتحريض، اللغة على ألسنة الشخصيات تضجّ بالعنف، الخطاب الذي تضطلع به قائم على استخدام حقل معجمي يتعمّد احتقار المتلقّي واستدراجه إلى دائرة يفوح منها جفاف المحتوى وارتفاع منسوب السفاهة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى برامجها السرديّة الفائضة بحبّ السلطة، ولو كلّف الأمر الاغتيال والسرقة وتبييض الأموال وانتهاك حريّة الأفراد واستعبادهم والتحريض وإثارة الفتن والنعرات.

 في خضمّ هذه الأجواء، طفل بين يديه جهاز الكتروني، العيون على الشاشة الصغيرة، وهو يصوّب نحو الهدف الخطأ.


 كاتبة لبنانيّة