الفلسفة والحرية

آراء 2023/05/04
...








 رعد أطياف


لا تقوم الحرية الخالصة على «مبادئ» مريضة. الضغائن والانفعالات الحزينة لا يمكنها أن تؤسس لحرية خالصة إلا بوصفها حرية مشروطة بحزمة نفسية سامّة. وهذه الأخيرة تنتج ذاتًا تستلهم مقولاتها من ردود الأفعال وتأطرها بإطار 

الحرية. الآخر بوصفه ضدا، الآخر بوصفه جحيما: بوصفه متدينا، بوصفه ملحدا، بوصفه هوية تتضارب مع بضاعتي الفكرية، فعلي أن أعلن حريتي ضد كل هذا «الآخر»، لا بوصفه أحد مصادر «الذات»، وإنما بوصفه جزءا منشقا عنها.ولكي نحذر من منزلقات المثالية، ليس المقصود التسليم التام للآخر ضمن اعتبارات فلسفية تبدو غامضة ولا تفصح عن نفسها، بل يتعلق الأمر بالتحديد حول الكيفية التي تجعل من هذا الآخر أن يكون أحد مصادر الذات العميقة، من دون أن تتحول حريتي، بسببه، إلى ضغينة واستنكار نفسي

 مشوّه. 

ثمة فارق واضح بين أن نهتدي لمصادر أنفسنا العميقة وبين الوقوع في مهاوي الضغينة، فعند هذه العتبة الخطيرة تفقد التجربة معناها الحق، وأعني بها المعنى الخالص من أي تبعية نفسية، التي تحاول أن تحشر نفسها على أنها مصدر عقلي محض. 

أن للعبودية أشكالًا، ومنها أن تكون ذاتاً حقودة تُسيٌّرها ظلمة نفسية كثيفة شديدة التعقيد، وذهنية متذبذبة تضع النفور والعدوانية كمقدمة «أصيلة» لممارسة الصبيانية على أنها حرية. ومتى ما كانت عملية التفكير ضدانية استلبت نفسها بنفسها. 

أنا «ملحد» لأن الخطاب الديني يثير استيائي، ولأن التنظيمات الدينية السياسية أساءت للدين. أي أنا ضد هذا النمط من الوجود لأني مصدوم! وليس لأني حر

 باختياري. 

ومن هنا نعثر على نماذج كثيرة تترجم لنا ظاهرة شائعة تُسَمّى بـ»الإلحاد العدواني». لكننا ننسى حقيقة وهي «إن الأعداء ليسوا سبباً مناسباً للتفكير» حسب تعبير المفكر التونسي فتحي المسكيني.

لا أتكلم هنا عن شرعية هذا ولا شرعية ذاك؛ عن إلحاد صحيح وآخر غير صحيح، ذلك أن الحرية، مهما كانت مستوياتها، لا يحق لأي جهة كانت أن تتصرف إزاءها تصرف الواهب والمالك، بقدر ما تتعامل معها بوصفها «تجربة معنى»، وبالتالي، والاقتباسات دائماً للمسكيني، «لا يحق لأحد أن يفرض عالم حياة جديداً على جيل

 آخر».

لذا لا نتكلم عن حرية «شرعية» وأخرى غير ذلك، كما لو أننا شرطة حريات، بقدر ما يدفعنا الحب نحو الفلسفة بوصفها تجربة معنى غنية لا تضع التفكير الضداني في قاموسها النبيل، وبالتالي هي تشرع للحرية الحرة فحسب بمعزل عن أي دوافع 

مريبة.

ثمة فارق بين الحرية بوصفها تجربة معنى وبين أن تكون نتيجة لضغينة ما، لردة فعل ما، ذلك أن كل ما يتأسس ويتمخض من هذه الأخيرة هو ترجمة بائسة ومحبطة لضغينة عميقة في النفس البشرية رغم أنها تكتسي ثوب الحرية.

 مع الاعتراف أن هذا النمط العميق من الحرية هو يحصل عادة ضمن التكوين الفلسفي للفرد. بعبارة أخرى: الحرية التي ينادي بها الفلاسفة ومن يسير في طريقهم. ذلك أن «كل البضاعات الروحية للأمم تتساوى أمام الفلسفة»، وبالتالي لا تصلح الفلسفة أن تكون جهازاً أيديولوجياً، أو ماكنة سجالية، أو بوصلة أخلاقة موجهة ضد الآخر؛ أنها حفر عميق للوصول إلى مصادر أنفسنا، ومران عقلي مستمر للغوص في لا نهائية المعنى.

القضية كالتالي «ما هو مقدس فينا هو حقنا في أن نفكر بأنفسنا، وليس هذا النمط من التفكير أو ذاك». مرة أخرى أكرر، هذه الحرية الخالصة، التي تذهب إلى الأقاصي دون وجل، تتوفر لمحب الحكمة فحسب، الذي يصفه الفيلسوف كير كغور، نقلاً عن المسكيني، بمن يمتلك «الشجاعة لأن يذهب في فكرة ما إلى النهاية».