. الحاشية والسلطان

آراء 2023/05/06
...

د. سهام السامرائي 

يحكى أن إمبراطورا كان مولعا بالثياب الجميلة. وقد بلغ تعلقه بها أنه كان ينفق كل ماله على اقتفائها. وكانت البلدة التي يقع قصره فيها سعيدة للغاية، يتوافد عليها الزائرون الجدد في كل يوم.  وذات يوم جاءها اثنان من النصابين كانا يشيعان بأنهما حائكان يعملان في صناعة النسيج، وأنهما قادران على نسج أروع الأقمشة وأشدها جمالا. وزعما أن هذه الأقمشة لم تكن تنماز من حيث الألوان والنقوش فحسب، بل كانت لها خاصية تجعلها غير مرئية لكل منْ كان يشغل منصبًا ليس مؤهلا لشغله، أو كان أحمق حماقة لا تغتفر.

إنَّ هذا رائع حقًا هكذا قال الإمبراطور لنفسه: والآن إذا صنعت أردية من هذا القماش، أمكنني أنْ أعرف مَنْ مِنْ مستشاري غير كفء لشغل منصبه. سأطلب من الرجلين أنْ ينسجا لي بعض الأقمشة. ثم دفع الإمبراطور للنصابين مبلغًا كبيرًا من المال لكي يشرعا في عملية النسج. وفكر قائلاً: (سأرسل رئيس وزرائي المؤتمن ليرى على أيّ نحو يسير العمل، فهو يعرف كيف يحكم على مادة القماش). 

وسرعان ما دخل رئيس الوزراء العجوز الطيب الحجرة التي يعمل فيها الحائكان وشاهد النول الفارغ، ففكر قائلًا : (اللهم إحفظنا !.. إنّني لا أرى شيئًا). 

ولكن أحد النصابين بادره بالسؤال : (أخبِرنا ما رأيك في ما ترى)؟ فردّ متمتمًا: (رائع) وبادر إلى ضبط نظارتيه على عينيه، ثم لم يلبث الإمبراطور أنْ دخل الحجرة التي كان الحائكان منهمكين بالعمل على النول الفارغ. 

فتوسلا إليه أنْ يقترب من النول فتساءل رئيس الوزراء: (رائع؟). 

فكّر الإمبراطور: ((إنّني عاجز عن رؤية أيّ شيءٍ إنّها لكارثة)). ثم صاح بصوتٍ مرتفعٍ : (إنّه قماش رائع، وهو يروق لي). 

ونصحه مستشاره بأنْ يقصّ القماش وأنْ يُخَاط لكي يرتديه في موكبه خلال الاحتفال المبكر الكبير. 

وفي الليلة التي سبقت الاحتفال لم تغمض للنصابين عين، إلا أنَّ الجميع كانوا يلحظون إلى أيّ حدّ انهمكا في العمل. وأخيرًا أعلنا على الملأ: (ملابس الإمبراطور الجديدة جاهزة)، وحينما اقترب الإمبراطور منهما تحركا على نحو يوحي بأنّهما يقومان بإلباسه الثياب الجديدة. 

وعندما سار في الموكب، أجمع سكان البلدة على أنّها رائعة، ولم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنّه لا يرى شيئًا. بل إنَّ ملابس الإمبراطور لم تحظَ بمثل هذا القدر من الترحاب من قبل. 

ولكن طفلًا صغيرًا لم يلبث أنْ صرخ قائلًا: (إنّه لا يرتدي شيئًا). ودار الهمس واللغط بين الحاضرين قبل أنْ يكرّروا ما قاله الطفل الصغير (الإمبراطور عريان). 

اعترت الإمبراطور الرجفة إذ أدرك أنهم على حق. ولكن قال في نفسه: (لا بد أن أتحمل حتى ينتهي الموكب)، وسار في خيلاء أكثر من أيّ وقت مضى. 

إلى هنا انتهت الحكاية 

مُذ وجدت السلطة – والسلطة ضرورة لقيام أيّ مجتمعٍ إنساني، بحسب رأي ابن خلدون – إلا وكان الحاكم بعيدًا عن قوة سلطانه مقربون يستشيرهم ويأخذ برأيهم يُطْلَقُ عليهم (حاشية)، و(الحاشية) كما وردت في معاجم اللغة تعني: (الأهل والخاصّة). 

ونقصد هنا بـ (الحاشية) : كلّ مَنْ يعمل تحت إمرة المسؤول الحاكم، الرئيس، المدير، أو أيّ شخصٍ يكون في موقع المسؤولية، سواء كانوا مستشارين، مدراء مكتب، أصدقاء مقربين، أقرباء بالدم، أبناء عشيرة...إلخ. وليس أدلّ على صلاح أو فساد الحاكم من اختياره للحاشية، هؤلاء يشكلون قوة مؤثرة وفاعلة، وتؤدّي دورًا مهمًا في توجيه قرارات المسؤول. 

 وليس أضرّ على المسؤول من (الحاشية ) السيئة فهي في الواقع غشاوة معتمة تغطي الحقيقة، وتمنع الرأي الآخر من الوصول إليه، وتمتهن نقل المعلومات الخادعة، وتصنع النجاح الوهمي، والفخامة الزائفة، وتعمل على إقصاء الخيّرين من الناس. هؤلاء لا يتورعون عن قلب الحقائق وتجميل القبيح منه، وتقديم صورة ضبابية للمسؤول، لصالح مآرب في أنفسهم. 

والحاشية السيئة تسعى إلى عزل المسؤول عن الناس؛ لئلا يسمع إلا أصواتهم، تحت ستار الولاء المصطنع، للسيطرة على قراراته وتوجيهاته، وكي يستمر نفوذهم و لا يفقدوا مكانتهم ومنافعهم.

وغالبًا ما تُجرّد (الحاشية) السيئة المسؤول من أدميته حتى تنسيه نفسه بحجج واهية، والنتيجة فقدان المسؤول لإنسانيته ودينه وقيمه ومبادئه وتعاليه على الناس والمجتمع. 

وتحرص (الحاشية) السيئة على حماية مصالحها بالتعاون في ما بينها، بتقريب مَنْ يرون أنّه من فئتهم، ومَنْ هو على شاكلتهم، وإيجاد بيئة من الفساد وخدمة بعضهم بعضًا، وتسخير الجهاز الإداري لهم. ولا يهمهم من إفساد دنيا ودين الأمة لأجل مصالحهم الخاصة، بعيدًا عن كلّ الحسابات الأخلاقية والدينية والقانونية والوطنية، وتختار لنفسها طريق المكر والأذى، خدمة لمنافعها الآنية، وإقصاء كلّ مَنْ يرون فيه الصلاح والنزاهة والأمانة والحرص على المصلحة العامة والعمل على تشويه صورته أمام المسؤول. 

على المسؤول أنْ يعلم أنَّ المنصب أمانة وأنْ يقف بحزمٍ وقوةٍ أمام النفعيين والانتهازيين والمرتزقين والوصوليين. 

وأخيرًا نقول : لا يستقطب (الحاشية) السيئة إلا المسؤول الفاسد بطبعه الخانع الجاهل، الذي جاء إلى موقع المسؤولية بنيّة فساد مبيّتة، والذي لا يهمّه شيء سوى بقائه على رأس السلطة، إذ لا يقرّب إلا الفاسدين أمثاله الذين يلبّون غاياته الدنيئة و يحقّقون أهدافه المريبة وأحلامه المريضة، بطرقٍ وأساليب خفية ملتوية، الذي حوّل المؤسسة المؤتمن عليها إلى مؤسسة عائلية وعشائرية. فهو حريص على اختيار مَنْ يشبهه في الخلق والنهج وفساد الذمة.