العراق وأعراض المرض الهولندي

آراء 2023/05/07
...

 د. صادق كاظم 


في أواخر ستينيات القرن الماضي اكتشف الهولنديون أن لديهم ثروة نفطية وغازية، جعلتهم يركزون عليها كمصدر مهم واساسي للدخل ويتخلون تدريجيا عن باقي الاقتصاديات الاخرى كالزراعة والصناعة والتجارة، مما أصاب هذه القطاعات بالضعف والتراجع، بينما حلت دخول النفط المالية الوفيرة محلها.

ازدهرت هولندا وقتها ماليا وارتفع مستوى الدخل السنوي للفرد هناك، وتدفقت الاموال إلى جيوب الهولنديين، وأقيمت الكثير من مشاريع البنى التحتية كالطرق والجسور والقطارات والموانئ، وكان قسم منها فائضا عن الحاجة، وأسهم هذا التدفق المالي السهل في حدوث تحولات اجتماعية خطيرة لدى الهولنديين وقتها، حيث إنه فاقم من عمليات الفساد والرشوة واصاب المجتمع الهولندي بالخمول والكسل، مع عدم وجود حافز كبير لديهم للإبداع والعمل والتطور.

البلاد تحولت نتيجة لذلك إلى استهلاكية وتراجعت عمليات الانتاج والتصدير للبضائع والسلع الأخرى إلى حد كبير، نتيجة لارتفاع قيمة العملة الهولندية أمام الدولار الامريكي، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهو ما أدى إلى عزوف المستوردين عن اقتناء البضائع الهولندية وقتها وسبب ذلك خسارة كبيرة للاقتصاد. وبدلًا من الصناعات الثقيلة، اتجهوا لزراعة الزهور والورود وتربية الأبقار، عازفين عن الصناعة التحويلية وعن الإنتاج وانتشرت حالة مرضية أصابت الهولنديين، تمثلت أعراضها في ضعف الإنتاج الصناعي، وزيادة نسبة البطالة، وارتفاع معدلات الفساد وضعف الرقابة، وزيادة الأنماط الاستهلاكية المَرَضِيّة. 

لكن هذه الوفرة المالية النفطية استمرت 15 عاما فقط عندما نضبت آبار البترول والغاز، وصارت تكاليف الاستخراج اكبر من تكاليف البيع والإنتاج، وكانت لحسن حظ الهولنديين وقتها إن جعلت الشعب والحكومة الهولندية يفيقان من حلمهما الجميل بالحصول على الرفاهية والغنى من دون أدنى مجهود، حيث وجد الهولنديون انفسهم في موقف لا يحسدون عليه، قياسا إلى باقي الدول الأوروبية الاخرى، ليعيد الهولنديون حساباتهم من جديد ويعملوا على اعادة تخطيط اقتصادهم وتركيزه على صناعات تحويلية وثقيلة مهمة لها طلب خارجي، ويمكن أن تضمن تدفق الاموال عبرها، اضافة إلى تشغيل نسبة كبيرة من الايدي العاملة وخفض معدلات الفقر والبطالة.

ظاهرة الاعتماد على أموال البترول في الاقتصاد وركون الشعوب إلى الخمول والكسل والعزوف عن العمل باتت تعرف بالمرض الهولندي، الذي تصيب أعراضه جميع الشعوب التي تعتمد على دخول النفط ومنها العراق الذي تراجع اقتصاده ومستوى انتاج سلعه غير النفطية إلى حد كبير وبات الاقتصاد الريعي النفطي هو العامل المحدد للانفاق الحكومي الذي اتجه نحو الاستهلاك، بدلا من الانتاج والاستثمار مع وجود قاعدة صناعية نامية لم يكتب لها الاستمرار والتطور، بسبب سياسات الحروب والعقوبات الدولية التي عانت منها البلاد في السابق.  تراجعت الصناعة والزراعة اللتان تعدان اهم مفاصل الاقتصاد وفضلت الحكومات السابقة، نتيحة للاموال الضخمة التي تملكها ان تتجه للاستيراد بدلا من الانتاج، حيث اقفلت المصانع المحلية الصغيرة ابوابها وعانت البلاد من معدلات مخيفة من البطالة انعكست على سوق العمل الذي ازدحم بارقام كبيرة من العاطلين نصفهم من خريجي الجامعات فيما اخذت سلع دول الجوار الرخيصة تتدفق على البلاد من دون عناء. 

العراق ياقتصاده الريعي النفطي يعاني من اعراض المرض الهولندي ورغم الاعتراف بما عانته البلاد من أزمات عندما تدحرجت اسعار النفط إلى ادنى معدلاتها، لتجد البلاد نفسها من دون موارد مالية تحميها وتسندها أوقات الازمات الا ان التعلم من هذا الدرس لم نصل اليه بعد، حيث هناك حاجة لاعادة هيكلة الاقتصاد لقطاعي الصناعة والزراعة إلى سابق عهدهما مع تحديث مفاصلهما، اضافة إلى الاجراءات الجمركية والحمائية، لتحمي هذه المنتجات وتعطيها الفرصة لاثبات قدراتها التنافسية داخل الاسواق المحلية ومن ثم امكانية التصدير إلى الخارج.

هذا الاعتماد الذاتي على الاقتصاد المحلي وزيادة معدلات انتاجه سيمتص نسب البطالة المرتفعة وسيرفع من المستوى المعاشي الاقتصادي ويجذب الاستثمار إلى السوق العراقية، بينما ستبقى أموال البترول ودائع في الصناديق المالية.