البقاء للأنضج

آراء 2023/05/09
...

 علي عبد الزهرة



لا يخفى على الجميع أن الحياد في بيئة يتصارع أقطابها أمرٌ حسنٌ، بل وضرورة لدولة مثل العراق، متنوعة العلاقات مع هذه الدول، لكن هذا الحياد يبقى ضمن تصنيف الحياد السلبي، وانعكاساته تسبب اضطراباً داخلياً، متأثراً بالاضطراب العام في المنطقة.. وبالتالي يتحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات. 

لذا فإنَّ دبلوماسية الحياد لا تكفي لتحقيق هدف السياسة الخارجية العراقية؛ بالعودة إلى الموقع الريادي، وهنا كان لا بد من اللجوء إلى الدبلوماسية المُبادِرة، بأن يقوم العراق باستثمار علاقاته المتعددة مع الاقطاب المتصارعة، لتفعيل الملفات المشتركة، وركن التقاطعات جنباً، من اجل اعادة رسم خريطة توازن القوى الاقليمية، بما يضمن الامن الجماعي للمنطقة، وللعراق بضمنها.

ومن أجل هذا الهدف، كانت المبادرة بعقد لقاءات ثنائية مستمرة ومتعددة الاتجاهات، وصولاً إلى تتويجها بمؤتمر بغداد للشراكة والتعاون، الذي سجل نجاحا استثنائيا، خاصة أنه جمع الاضداد، والمتخاصمين، وقلب الاجندة لتلك الدول، وصارت تؤمن بأن الاهداف الاقتصادية والامنية والسياسية بل وحتى التنموية.. تتحقق جميعا، عبر الحوار والتعاون والتشاركية. 

ويحسب لهذا المؤتمر، أنه أعاد العراق، إلى موقعه الستراتيجي في المنطقة، وأثبت للجميع أن العراق قادر على قيادة المرحلة المقبلة؛ مرحلة التعاون والبناء، بكونه منطلقا للتحاور، لا ساحة لتصفية الحسابات. 

وبالتوازي مع ذلك المؤتمر، كانت بغداد تحتضن «الندين»، الرياض - طهران، ونجحت كذلك نجاحاً لا يمكن إلا أن يحسب تقدماً كبيراً في مسار عودة العراق إلى موقعه الريادي، بتوظيف أهميته الجيوسياسية، بالشكل الصحيح. 

نتج عن ذلك صلح تأريخي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية في ايران، وفي وقت حساس جداً، خاصة في ملف استعدادات التحضير لأجندة الآمن الإقليمي. 

لكن، هل هذا يكفي لعودة العراق قطباً أساسياً في المنطقة؟ كلا، في عالم القوى الدولية اليوم، بات البقاء لـ الأنضج.

 فالقوة الصلبة أضحت تستخدم للمناورة، والقوة الناعمة أداة للتغلغل والاختراق، وكلاهما لا تكفيان لاتمام المهمة، من دون مشروع ناضج، يخرج من رحم مؤسسات ذات استقرار وستراتيجية، وليس مزاجيات «حزبية». 

نعم، أصبحنا الآن في مرتبة متقدمة عمّا كنا عليه قبل (10) سنوات، وهذا يجعل المهمة أوضح وأكثر إلحاحاً، بأن يعمل رئيس الوزراء - كونه المسؤول التنفيذي الاعلى لرسم السياسة الخارجية - مع الفريق الخاص بالملف الخارجي، بهدف اختيار العناصر الاكثر مهنية - وهي متوفرة داخل المؤسسات المعنية وحتى خارجها - ووضع منهجية تكون لها الاولوية في الملف الخارجي، بعيداً عن أهواء هذا الزعيم السياسي أو ذاك، بل الأولى أن يؤمن «الزعماء» بعصر جديد في المنطقة، وعهد جديد للعراق فيها، ويتركون ما سرقوه من «صلاحيات دبلوماسية». 

بناء عمل مؤسسي في الملف الخارجي، سيكون كفيلاً في تفعيل الملفات والقطاعات الاخرى داخلياً كذلك.. ولعله سيكون نقطة التحول خارجياً وداخلياً، وبداية مرحلة بناء الدولة الحقيقية التي تليق بكل عراقي.