ساطع راجي
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) لا يمر عام، من دون أن تنتج السينما العالمية فيلما عن محنة اليهود في أوروبا، خلال سنوات حكم النازية الالمانية؛ أما على مستوى النصوص الروائية والسيرية والوثائقية والاكاديمية فحدث ولا حرج، ولم يقل أحد إن تلك المحنة حدث ينتمي إلى الماضي ويجب تجاوزه منعا لإثارة الحساسيات، على العكس، صارت تلك المحنة مقياسا لإنسانية وأخلاقية المجتمعات والأفراد.
في العراق؛ يتجاهل المجتمع والدولة وصناع الرأي العام محنة الكرد الفيليين، ولم يظهر منتج ثقافي أو فني أو إعلامي مؤثر (كما ونوعا) يؤرشف ويدين محنة الابادة ونزع الجنسية والتهجير ومصادرة الممتلكات، التي نفذها النظام البعثي ضد الفيليين؛ ذلك النظام الذي اعتبر في الاجراءات النازية المدانة نموذجا أعلى لمعاملة الفيليين، لمجرد شعوره بأنهم يمثلون خطرا عليه، رغم وجود فيليين بعثيين مخلصين للحزب وزعيمه الدموي.
صور تهجير وإبادة الفيليين التي نستعيدها هذه الأيام تدفعنا لمقاربتها بصور المكونات العراقية، التي لاحقها تنظيم داعش في ما بعد، لنكتشف أن العقلية المجرمة هي ذاتها، وفي الحالتين يوجد قصور أخلاقي وإبداعي في تعبير المجتمع والمؤسسات عن إدانته للجرائم والمجرمين، وفي معالجة الأذى اللاحق بالضحايا.
الرابط بين تاريخ المجرمين وتاريخ الضحايا من الجرائم ضد الفيليين إلى الجرائم ضد الايزيديبن والمسيحيين تحديدا، هو أن الجناة كانوا يستهدفون ذروة البراءة والمسالمة العراقية، ذروة الانشغال بالذات في محاولتها لاكتشاف الجمال والهدوء في بلادنا الصاخبة، وشخصيا كلما وقفت عند محنة الفيليين قفز أمامي اسم الشاعر سيف الدين ولائي، الذي منح العراقيين أجمل الاغاني، ثم لم يتحمل التهجير والبعد عن العراق، وعندما استقر في العاصمة الاردنية عمان، بعد مغادرته سريعا لايران؛ لم يعش طويلا ولوح للجميع وهو يفارق الحياة، التي لم يجد مبررا للبقاء فيها بعد مغادرة العراق، وصارت أغانيه تسجل تحت عنوان "تراث شعبي" لاستكمال الجريمة ضده.
آلاف القصص المأساوية بحاجة إلى ارتقاء أخلاقي يدونها بإنصاف مبدع، ويثبت أخلاقية المجتمع العراقي في نفسها الطويل، الذي يتجاوز الانفعال الحماسي الآني؛ فالمجتمعات الحيَّة هي التي تدون انفعالاتها ومواقفها وتمنحها وجودا أبديا، لكن في زحمة التوترات والتدافع السياسي والمشكلات المستجدة، نجح الاعلام البعثي في إقصاء إبادة الفيليين من انشغالات وسائل التواصل الجديدة، كما أن الخلافات السياسية والتحزبات منعت تقديم الجانب الانساني والاخلاقي للابادة.
في الضفة الأخرى، لاحقت المجتمعات الغربية ولا تزال تلاحق كل الفئات المشاركة؛ فردا فردا، في الابادات النازية، ولذلك تحولت ممارساتهم إلى موضع ادانة عامة، لكن في العراق؛ عندما أدرك مجرمو الامس عدم وجود إدانة مجتمعية لجرائمهم ضد الفيليين أطلقوا سلالاتهم الفكرية والتنظيمية بعد عقود لتكرار الجرائم نفسها ضد كل المكونات الضعيفة والمحاصرة، ما يثبت أن عدم تحويل الجرائم القديمة إلى منطقة ادانة وتحريم وتجريم يسهل استمرار الجرائم ضد الانسانية في العراق.