الجذرويّة والتضحية الهوجاء !

ثقافة 2019/04/20
...

د. رسول محمد رسول
راقت لي مؤخراً قراءة كتاب (رغبة هوجاء في التضحية/ المُسلم الأعلى) لفتحي بنسلامة، بترجمة الحُسين سحبان، ومراجعة حمّادي صمود، وصدر عن دار مؤمنون بلا حدود سنة 2019 لما فيه من تقارب وأحياناً تطابق مع توجّهاتي في دراسة ظاهرة العقل التدميري (انظر كتابنا: نقد العقل التدميري في طبعته الأولى سنة 2009، وفي طبعته الثانية الصادر عن تنويريات بالكوفة 2019) كما يتسلّح به بعض الإسلامويين، لا سيما عند ظهورهم، في أقل تقدير، منذ حرب الجزائر الداخلية مطلع تسعينيات القرن العشرين؛ بل حتى قبل ذلك مع اختلاف الحقل الذي يعمل به الدكتور فتحي بنسلامة وهو حقل التحليل النفسي والمرَضي بينما تراني متخصصاً في الحقل الفلسفي لكن الواقع – الواقعي يجمعني بالأستاذ فتحي بنسلامة وهو محلّل نفساني، وأستاذ علم النفس العلاجي في (جامعة باريس7). وله كتب عدّة منها ما تُرجم إلى العربية مثل: (الإٍسلام والتحليل النفسي) لسنة 2008، (والأنوثة والجنس في الإسلام) للسنة نفسها، وغيرها.
المتجذرون  والكوخ البيئي
يقع كتابه الثري في أربعة فصول يلاحق فيها إشكالية “المسلم الأعلى” عندما يدرس “الجذروي” في سلوكه الفعلي والمرضي، ويعوم في الفصل الأول باحثاً عن التجذّر بوصفه خطراً مُهدِّداً في عصر يشهد “ميلاد الشخصية العالمية للمتطرّف بوصفه فرداً غير مأمون الجانب”، لذلك يعتقد بنسلامة أن “التجذر فتح حقلاً نظرياً وعملياً في مفصل المعرفة والخوف” لا سيما بعد نزوع “التجذر إلى الاختلاط بالتحوّل إلى الإرهاب”. 
إنَّ “القدرة على زرع الفزع والرعب على نطاق واسع هو باعث مهم للصعود إلى قمم التطرّف”، هكذا يقول المؤلف، ويضيف: “إن الإرهاب مبيد للبشر أجمعين”.
ويلاحظ متسائلاً: “ما الجديد الذي أضافه مفهوم التجذر إلى كثافة الشبكة الإشكالية للإرهاب؟”. 
ولذلك يستعين المؤلف بعدد من آراء الباحثين في هذا المجال، لا سيما الفرنسيين. وإذا كان الإرهاب يجعلنا نسلّط الضوء على المجتمعات، فإن التجذر يجعلنا نسلّط الضوء على الأفراد لكون “البعد الذاتي الخالص يكتسي أهمية متعاظمة”، وهو ما دعا الباحثين النفسيين يولون سلوك المتجذِّر والمتجذرين أهمية فائقة، ومن دون شك يعتقد بنسلامة أنّنا نجد أنفسنا بإزاء “إقامة إمبراطورية علامات للتجذُّر”، وهو أمر يدعونا إلى التوقف عندها. مع الفصل الثاني يدخل المؤلف إلى الجوانب المرضيّة عند المتجذرين فيعطف على بحث “الدلالة التشخيصية” الخاصّة بالتجذر والمتجذرين فتحركهم “رغبة وأحيانا استعجال للتجذر أو لإعادة التجذر Se ré-enraciner في السماء” بدلاً من الأرض. وبدلاً من مصطلح “المتحمسين” الذي ساد قبل غزو الكويت يصطفي المؤلف مصطلح “المتجذرين” فيتحدّث عن “التجذر بوصفه عَرَضاً مرضياً”؛ بل ويعكف على القول استقرائياً بأن “ثلثي المتجذرين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة ولكون هذه المرحلة توافق منطقة القرار المؤجل لدى المراهقين”، ويرى المؤلف أنّ “البعد الوبائي الذي اتخذه التجذر الإسلاموي هو صورة للانفلات المتهوّر للمثل العليا في العصر”، ومنه أن العالم الإسلامي أصبح يكتسب “قدرة مُجمّعة للسلبية”، وأصبح يؤوي ويغذي إحباطات وأحقاد وإقصاءات للذات والعالم الراهن، ويجد في المثال الأعلى للإسلامويّة الجذرية “الكوخ البيئي” الذي يتيح لوباء مجتمعي وسيكولوجي يفرخ وينمو ويتكاثر داخل فضاء ثقافي 
معين”. 
ومن هنا يعتقد المؤلف بأننا لا نستطيع أن فهم العرض الجهادي ما لم نحلل شروط تكّون هذا الكوخ البيئي”.
رغبة هوجاء
يتضمّن القسم الثاني من الكتاب “المسلم الأعلى وتجاوزه” أربعة فصول، يدرس الأول منها اختراع الإسلامويّة، ويقف عند هذا الأخير كمصطلح لكون “اختراع الإسلامويّة هو من الوقائع الكبرى في تاريخ المسلمين الحديث”، فالإسلامويّة التي أعطيت لدين المسلمين سابقاً نراها لا تدل اليوم على ذلك؛ إذ كانت تدل على الدين الإسلامي إلى جانب ملفوظات أخرى مثل: “مُسلميّة”، و”محمدية”، أما اليوم فدلالتها غير ذلك. 
وبذلك يصطفي بنسلامة قراءة أخرى، فهو يعد الإسلامويّة من اختراع المسلمين انطلاقاً من الإسلام لطوباوية معادية ضد الغرب”، ويعني هذا أن “أتباع الإسلامويّة هم أنصار الإيديولوجيا السياسية الهادفة إلى السلطة، وإقامة دولة تتخذ الدين الإسلامي مرجعاً لها، ومعنى ذلك “إما تسييس الدين وإما دخول الديني في السياسي”، فلا يوجد إسلام سياسي؛ بل إسلام في السياسية” - بحسب قول أوليفييه روا - غايته “قلب نموذج الحكم السياسي”، ولذلك يذهب بنسلامة إلى استقراء حالة الثورة الإسلامية الإيرانية 1979، والإمارة الإسلامية في أفغانستان 1996، والدولة الإسلامية – داعش 2006، وكل هذه الحركات إنما هي “طوباوية تعطيل السياسي أو الخروج من السياسي بواسطة الدين”. وما كان تصادم الإسلاميين مع الغرب ببعيد عنه، فالإسلامويّة هي “رد فعل عنيف ضد اللقاء مع القوة الغربية” لذلك ظهرت حركات إسلاموية متتالية تباعاً منها بداية حركة الإخوان المسلمين.
 
المسلم الأعلى
وفي الفصل الثاني من القسم الأول يصل المؤلف إلى إشكالية “المسلم الأعلى” الذي يريد أن “يزداد إسلاماً فوق إسلامه”؛ بل إن وجود هذا المسلم الأعلى هو “تشخيص للحياة النفسية لمسلمين مفعمين بالإسلامويّة تتسلّط عليهم وساوس الإثم والتضحية. إن على المسلم الأعلى أن يكفّر عن إثمه، ويندم، ويتطهّر، ويسعى إلى حياة منسجمة”، وهو، إلى جانب ذلك، تراه “المسلم المتواضع”، بل هو “فخر الإسلام”، ولا بدّ أن “يتحوّل رغبة منه إلى أن يصبح خارجاً عن القانون باسم القانون بما يفترض أن يكون فوق كل القوانين”، إنّه “الأشرف”، ويمارس “استمتاعاً محرّما بالله”، وإنه المعثور عليه من جانب الله، وأن أناه هي متميزة الكينونة لكونها “الأنا الأعلى الأصلي” والأنوات الأخرى مجرد نسخ، بل هو الكائن الأنموذجي عندما تصدر طبعته، وما شخصيته سوى أنّها “تريد التخلّص من العالم وأن تشارك في نهايته”، كما أنّه “يشتهي الموت”، وتراه حرْفياً وعندما يقرأ (القرآن) فلا ميل لديه للتأويل، وهو شخصية وعقلية تدميرية يبغي انحلال الناس إلى أديم ترابي، ويستمد المسلم الأعلى الجهد الذي يبذله للاستمرار في وجوده من رغبة هوجاء في التضحية بنفسه.
أما الفصل الأخير “في تجاوز للمسلم الأعلى – المرآة السياسية” فيتوقف المؤلف فيه عند انتفاضات الربيع العربي منذ سنة 2010 من دون أن ينتقص من تلك الانتفاضات لا سيما أنّه يعدّها جزءا من “صيرورة تاريخية كان قد ضُرب عليها حصار منذ نحو نصف قرن”، لكنه ومن زاوية نفسية يميل إلى دراسة ظاهرة “البطل” في السياسية العربية الذي هو “مرآة” يحفل بها الإسلاموي؛ فالواحد البطل، في الهوام وفي الواقع السياسي معاً، هو أسطورة الإسلامويّة نفسها التي يتم بها امتصاص كل ضعف في الإرادة السياسية”.
كتاب (رغبة هوجاء في التضحية.. المسلم الأعلى) شيق القراءة متين الترجمة والمراجعة وهو ما نحتاجه كباحثين للتوقف عند ظاهرة الإسلاموية الجذروية في خطابها وممارساتها التي رأيناها ونراهم في كل يوم وساعة ودقيقة ولحظة.