الديموقراطيَّة والعلمانيَّة

آراء 2023/05/11
...

 علي المرهج


يمكن طرح مسألة الديمقراطية بالصيغة التالية: أيهما يحقق المصلحة العامة أو أقرب أو أجدر بتحقيقها، هل حكم الفرد المستبد، أم الحكم الذي يقوم على الانتخاب الحر النزيه وعلى المراقبة الفعلية للحكام، فإن الجواب لا يحتمل غموضاً ولا التباساً. لذلك يؤكد الجابري أن غياب الديموقراطية بمعناها (حُكم الشعب لنفسه) في الفكر السياسي العربي الإسلامي «لا يعني غياب مضمونها»، الذي عوضته الثقافة العربية الإسلامية بدفاعها وتبنيها لمفهوم «العدل»، «حيث يحتل العدل مكانة سامية في سُلم القيم»، فمن أعقد مشكلات تطبيق الديموقراطية بمعناها الغربي هي أنها في الغرب تعني «الانتخاب شريطة المساواة بين المرشحين في الامكانات والوسائل»، وهذا الحال لا يتحقق بالتأثير ذاته في مجتمعنا، بسبب تفاقم مشكلة الأمية والجهل واتساع الفوارق الطبقية بين الغني والفقير، لأن أبسط مبادئ تطبيق الديموقراطية تقتضي تقليل معدلات الجهل والفوارق الطبقية بين الناس، ولتكتمل حيثيات الديموقراطية نحن بحاجة لوجود «إنسان مُتحُرر ليس فقط سياسياً، بل شعوريًا واجتماعيًا، بمعنى أنه ينظر إلى نفسه كذات لها حضورها الفاعل والمستقل». 

ينظر الماركسيون إلى الديمقراطية السياسية بوصفها الوسيلة التي تستعملها الطبقة البرجوازية لفرض سيطرتها على الطبقة الكادحة. بينما نجد الموقف الليبرالي ينادي بالحرية، لكنه لا يتعامل مع الديموقراطية بوصفها «حكم الأغلبية»، لأنه يدرك أن الأغلبية ليست له، بل هي للطرف الآخر المنافس له، الطرف السلفي على الخصوص الذي يرفض الديمقراطية الغربية، لأنها تقوم على آليات حديثة لا يُحسن استعمالها، وكثير منها يتناقض مع القيم التي يدعو إليها، ولذلك ينادي مفكروه بـ «المستبد العادل»، التي نادى بها الشيخ محمد عبده بوضوح، والدعوة إلى «الشورى» والعمل برأي «أهل الحل والعقد». والشعب ليس هو مصدر السلطات، كما تقول بذلك الديمقراطية، بل الله تعالى، لذلك هم أقرب لمقولة الخوارج «لا حاكمية إلا لله»، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية، بحسب ما يرى سيد قطب، وإن اختلف غاير الشيخ محممد عبده في كثير من آرائه، لأن خطاب الشيخ محمد عبده أقرب للخطاب التوفيقي منه للخطاب السلفي التقليدي. 

يرى كثير من المفكرين العرب المعاصرين، ومنهم محمد عمارة، وحتى الجابري أن مشكلة العلمانية ومحاولة فصل الدين عن الدولة في الفكر العربي هي «مشكلة مصطنعة منقولة عن الغرب، والمشكلة أساساً هي مشكلة الديمقراطية». لأن مشكلة الليبرالي العربي هي ليست العلمانية، لأنه لم يكن يريد فقط فصل الدين عن الدولة كما تريد العلمانية، بل كان يريد احترام حقوق الأقلية، لأن من بدأ المناداة بالعلمانية أغلبهم كان من الأقلية الدينية، لا سيما المسيحيين الذين كانوا يعيشون تحت سلطة العثمانيين واستمرار دولة الخلافة، فكانوا يخشون ضياع حقوقهم داخل الدولة ذات الأغلبية المسلمة والحكم

 الإسلامي.

أما ما يريده السلفيون من نقدهم لشعار فصل الدين عن الدولة وتأكيدهم على مدنية الإسلام وتفضيلهم لمفهوم «الشورى» على الديمقراطية، لخشيتهم من سيطرة النخبة العصرية المرتبطة فكرياً بأوروبا على مقاليد الحكم.. 

لذلك لا نستغرب، كما ذكرت في مقال سابق، إن علمنا أن الإنسان في الدول الديموقراطية خاضع لمنظومة العدالة والالتزام بقوانينها، بل ربما تكون هذه القوانين عوامل ضغط تحد من حرياته التي قد يتبادر له أن حر حرية كاملة، ولذلك نجد مفكرا مثل الطهطاوي معجبا بمنظومة العدالة في فرنسا، وكذلك محمد عبده الذي نسب له القول، حينما ذهب إلى فرنسا «وجدت إسلامًا، ولم أجد مسلمين»، بمعنى أنه وجد ما يتطابق وغاية الإسلام وهدفه ألا وهي العدالة التي تؤسس للحرية، والعبارة بمضمرها تحمل القول التالي (عندنا يوجد مسلمين، ولا يوجد إسلام) لغياب تأثير منظومة العدالة في الحياة السياسية والحياة الاجتماعية.