الحرب الكانطيَّة

آراء 2023/05/11
...


 ميادة سفر


قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط “إن أكبر شر يصيب الشعوب المتمدنة ناجم عن الحرب، لا بمعنى الحرب الحاضرة أو الماضية بل بمعنى الاستعداد الدائم للحرب القادمة”، لذلك كرس كثيراً من وقته وجهده ليقدم للبشرية مشروعاً فكرياً فلسفياً متكاملاً، محدداً من خلاله سبل تجاوز البؤس الإنساني المتمثل في الحرب والدمار تحت عنوان “نحو مشروع السلام الدائم”، فبعد كل الصراعات التي تفرض نفسها قسراً كحل للخلافات التي تنشأ بين الشعوب، يفرض السلام نفسه كحتمية لا بدّ منها للعودة إلى حياة طبيعية أو شبه طبيعية في بلد ما، فهما طوران متلازمان في حياة الدول والشعوب على حد سواء، ففي الوقت الذي تأخد فيه الحرب جانباً للدفاع عن النفس ورد الاعتداء وإعادة النظام لبلد ما، يكون السلام باعتباره نزعة إنسانية هو سيد الموقف حين تفشل أدوات القتل ولا بدّ ستفشل عن تحقيق غايتها.

لا بدّ من إقامة وتأسيس العلاقات بين الدول والشعوب على قواعد أخلاقية، والانتقال من حالة التوحش إلى الأنسنة، وهنا يغدو التعايش والمسامحة القطبين الأساسيين للاستمرار في الحياة بين أبناء البلد الواحد شعوباً وقادة، مشكلين تتويجاً لرغبة الأطراف بالأمان ونشر السلم الذين أقرته الطبيعة البشرية قبل أن تؤكدهما المواثيق الدولية والقوانين بما يضمن العيش بأقل قدر من الخوف والدماء.

كثيراً ما تعاني المجتمعات التي تتعدد فيها الأعراق والإثنيات والديانات والطوائف من تفشي الاقتتال الطائفي والعرقي، وينتشر الإرهاب ويغدو الآخر المختلف عدواً بكل ما للكلمة من معنى، وتأتي الخلافات السياسية والرغبة في اعتلاء المناصب والجلوس على كراسي السلطة لتزيد الأوضاع سوءاً، ولنا في مجتمعاتنا العربية أمثلة كثيرة على ذلك، فلم تهدأ هذه البلاد من سفك الدماء وقتل الأبرياء بحجج واهية، كان لها أن تحل بمجرد الإيمان بأفضلية الحياة على الموت والسلام على الحرب، وأهمية التسامح والعيش والتعايش الذي لا بدّ من تعميمه في البلاد، لا سيما تلك التي لها تاريخ في الانقسامات والانشقاقات، حيث يغدو خياراً اجبارياً لا بدّ منه لجميع الأطراف لإيقاف النزيف ولجم الأحقاد والكراهية بين أبناء البلد الواحد، فلم يتمكن لبنان من استعادة سلامه ولو جزئياً، إلا حين قرر أطرافه الجلوس مع بعضهم البعض وخلق فرصة للمسامحة، كما سيحصل في العراق ولاحقاً سوريا التي عانت من حرب لسنوات، ومثلما يجري اليوم من مساعي للمصالحات والسلام في اليمن 

والسودان.

يعتقد البعض أن التسامح مع الطرف الآخر في الصراع ما هو إلا منة منه، وكأنه تنازل فئة من أبناء البلد “الأغلبية” عن بعض من “امتيازاتها” لفئة أخرى “الأقلية”، وتقبل هذه الأخيرة تلك المنحة والمكرمة والمنة، ليتمكنا من العيش في مكان واحد، ويتمتعان بكامل الحقوق والواجبات، والقيام بالأعمال والحصول على الخدمات، ليتحول الأمر بمرور الوقت إلى استبداد وغياب العدالة الاجتماعية، والعودة مجدداً 

للحرب.

لذلك ما يجب أن يؤسس عليه هو التعايش المقترن بالمسامحة والأخلاق الإنسانية المبني على حق الجميع في العيش وتعزيز الاحترام المتبادل وقبول الآخرين، والاعتراف بوجودهم، والمساواة فيما بينهم، وعدم إقصائهم، وهذا يعني تبادل المنفعة، وإحلال القانون محل الاعتداء والسلب، لا فضل لطرف على آخر إلا بما يقدم من منجز يعود نفعه على الجميع، ليصار إلى اعتماده أسلوباً لحياة يبنى عليه القادم من 

الأيام.

قد لا يكون من السهولة بمكان تحقيق السلام وتعميم المسامحة بين الشعوب، ولابدّ ستواجه محاولات المصالحة معارضة من هنا وهناك، إلا أنّ مجرد الرغبة والتفكير في إيجاد حلول والعمل على إزالة مسببات الحرب، يصنع أملاً لأولئك الذين جنحوا للسلام ورغبوا في تأسيس نظام قائم على القيم الأخلاقية والإنسانية، على أمل الوصول يوماً لتحقيق مشروع السلام الدائم الذي دعا إليه إيمانويل كانط وتبناه كثيرون 

غيره.