حلم الدولة العراقيَّة الحديثة

آراء 2023/05/11
...

 رعد أطياف


العلمانية ليست ديانة ولا هوية شخصية. كما أنها لا ترتبط بجانب اقتصادي، ولا علاقة لها بالغرائز البشرية، وإنما هي هوية دولة تفصل الالهي عن الدنيوي. أي انها تؤمن بسلطة زمنية تاريخية، ولا تؤمن بسلطة الهية فوق التاريخ في ما يتعلق ببناء الدولة. في الدولة العلمانية تكون المؤسسات دنيوية فحسب، ويكون للدين في الفضاء العام حرية الممارسة بمعزل عن أي إكراه. 

يمكن أن تكون دولة علمانية وسلطتها مجرمة أو متخلفة ويمكن لدولة تتذرع بالدين أن تكون لها الصفات المذمومة نفسها. وبكل الأحوال، لا تُعتبر هوية الدولة- سواء أكانت عَلمانية أم دولة تحكم باسم الدين مع أن هياكلها علمانية- مُنقذ من الخراب أو حجاب ضد الآفات الاقتصادية والسياسية ما لم تترافق معها حركة سياسية تنويرية. فالتغيير –أولاً وآخر- يبدأ من السياسية، وليس التركيز على العلمانية سوى سوء فهم أو جدل خطابي ليس له معنى.

المشكلة في منطقتنا أنه لا الأحزاب الدينية ولا الدنيوية استطاعت أن توطّد مفهوم الدولة الحديثة. لا السابقون ولا اللاحقون أمكنهم من بلورة نموذج مقنع لكي نستطيع القول: إن هذه الأيدلوجيا تختلف عن تلك. 

تاريخ القوميين منغمس بالدم والدموع، ومرحلتنا التاريخية الراهنة متعثرة بخصوص بناء مؤسسات الدولة. فبماذا نفسر ذلك؟ أن السابقين واللاحقين آمنوا بقناعة راسخة مفادها، ينبغي على مجتمعاتهم أن تبقى في طور المجتمعات التقليدية. وإن كان ثمة كفاح شرس أبداه الأيديولوجيون سابقاً هو إبقاء مجتمعاتهم على هذه الحالة. 

ينبغي أن يبقى الحزب الواحد، والقائد الواحد، والسلطان الواحد، هو الدلالة التي تختزل كل مؤسسات الدولة. 

وحتى هذه اللحظة لا أحد يرى نفسه معنياً بتحريك الراكد أو القفز عن المألوف. لذلك، ومن وجهة نظر شخصية، أن الإشكالية الجوهرية في بلداننا تتعدى هذا التقسيم النمطي “يساريون وقوميون، وإسلاميون”، بل ينبغي دفع الإشكالية إلى أبعد مدى ممكن: لماذا فشل كل هؤلاء في إرساء دعائم الدولة الحديثة؟ وسواء اختلفنا مع هذه الايدلوجيا أو تلك، فالمشترك الذي يجمع هؤلاء هو أكبر من الأيديولوجيا: أنها تضخيم السلطة على حساب مؤسسات الدولة.

على كل معارضة سياسية- ضمن الأطر الدستورية بالتأكيد- أن تضع بناء الدولة ومؤسساتها العصرية شغلها الشاغل، لا أن تكون فاقدة للبوصلة ولا يحركها سوى الحماس والانفعالية وردود الأفعال، ومن ثم سرعان ما تتبخر وتلقي بظلالها الكئيبة والمحبطة على الأجيال السابقة، وتبقى هذه الأجيال بلا نموذج تحتذي به، ومن دون أي خطوة عملية 

مثمرة.

في الخطوة المستقبلية الثانية سيكون - حسب المفترض- ترجمة خطاب المعارضة إلى ممارسة سياسية مٌنَظّمة للإسراع في عملية التمايز بين الرغبة في السلطة فحسب، و بين معارضة تدافع عن وجود الآخرين وتسعى للخير العام. لا يعني أن الرغبة في السلطة هي شر محض، وأن المتواجدين في السلطة هم كذلك، وإنما يعني أن تكون في كل عملية ديمقراطية ثمة أحزاب معارضة لتقويم العملية السياسية، وأن يكون شعارها العمل المؤسسي المُنَظَّم.