الظاهرة الاجتماعيَّة عند كارل ماركس

منصة 2023/05/11
...

  نشوان محمد حسين

الظاهرة الاجتماعية عند ماركس لا تتشكل ولا تتحرك أو تمارس فعلها وفقا لما هو قائم بذاته، بل من خلال مجموعة مؤثرات وعوامل داخلية وخارجية تدخل في علاقة جدلية ووفق خط زمني تلعب العوامل المادية فيه دور المحدد.

كما أن النسق الاجتماعي ليس شيئا مستقلاً عن الواقع، يمارس دوره بطريقة ميتافيزيقية، بل هو جزء من بنية قائمة ضمن مجموعة من العلاقات يلعب العنصر المادي المتحكم الاساس في حركة تشكله وتطورها التاريخي.. حيث إن أصل تشكل الظاهرة قائم على "التناقض" الذي يقود إلى تغيير وتطور المجتمع، وحيث إن منشأ هذا التناقض بين قوى الانتاج الاجتماعي وبين القوى المتملكة لأدوات الانتاج، حيث يدفع تطور هذه الادوات نحو ازالة شكل العلاقة القائمة بين هذين النقيضين، وخصوصا في مرحلة الانتاج الرأسمالي حيث يتطور الصراع الطبقي. (وليس هذا "الصراع" خارجيا وعرضيا، كما لا نستطيع أن نفهمه تماما إذا افترضنا أنه مسألة قوى أو اتجاهات تنبعث مستقلة بعضها عن البعض، ويتصادف ان تلتقي وتصطدم ببعضها وتتنازع. كلا إن الصراع داخلي وضروري، لأنه ينبعث من طبيعة العملية ككل... وليست الاتجاهات المتضادة مستقلة عن بعضها البعض... فالحركة والتغير يحدثان من اسباب داخلية في الاشياء والعمليات، من تناقضات داخلية)1. إذن التناقض هو القوة المحركة وبالتالي هو المغيّر بما يوفره من ظروف داخلية ضرورية، (والحركة التي لا تحوي تناقضات ستكون تكرارا مستمرا للحركة نفسها )2.

كذلك تكلم ماركس عن دول العمل وقدرته على صياغة الانتاج الثقافي للمجتمع، وكيف تؤثر طبيعة وظروف العمل وخصوصا اساليب الانتاج (قوى انتاج + علاقات انتاج) على شكل وطبيعة الثقافة بما تحويه من فلسفة وقانون وسياسة وغيرها، وكيف تلعب هذه العوامل دورا في إعادة صياغة النظام المادي التحتي للمجتمع في علاقة جدلية منتجة بين ما هو فوقي وما هو تحتي، حيث إن قوى الانتاج في البناء التحتي سابقة في تطورها على النتاجات المعنوية من ثقافة وسياسة وقانون وفنون، وكما قيل (لا توجد ثقافة رأسمالية قبل نشوء ادوات الانتاج الرأسمالية).. وبالتالي فان المنهج الماركسي في تفسير الظاهرة الاجتماعية يركز على الجانب العلمي من خلال البحث في الاصل المادي الملموس لتكوينها.

لذا فأن تغير وتطور الظاهرة الاجتماعية لا يمكن أن يُفسّر من دون دراسة وفهم اساليب الانتاج التي هي مرافقة لها، وأن التناقض الاقتصادي بما هو سياسي ينعكس إلى تناقض اجتماعي ـ ثقافي فيشكل صراعا هو في أساسه طبقيا.. قبل أن تعود العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية وكل مكونات البناء الفوقي بممارسة التأثير على البناء التحتي الاقتصادي الذي يشكل محور العلاقة الجدلية. 

لذا فإ مجمل هذه العلاقة من الطبيعي أن يجعل من الظاهرة الاجتماعية ذات صفة نسبية وبشكل لا يقتصر على الادعاء فقط، كما هو الإدعاء عند أوغست كونت ودوركهايم -وغيرهما من الوظيفين- بل انه مفسّر بشكل علمي واضح، فهي وباختصار ذات تفسير آني مترابط مع ما هو تاريخي، وأنها تختلف ايضا من مكان لآخر تبعا لأسلوب الانتاج وعلاقاته.

ولعل اهم ما قام به ماركس ليس في مجال معالجة الظاهرة فقط، وإنما في ما يخص علم الاجتماع ككل، هو قيامه بإجراء فصل علمي بين الدراسات الاجتماعية وبين فلسفة التاريخ، هذا الفصل الذي لم ينجح فيه لا كونت ولا غيره من الوظيفين، ما مكن ماركس من رسم صورة علمية واضحة لعلم جديد يسمى "علم الاجتماع". فضلا على تأكيده لنسبية الظاهرة الاجتماعية من خلال دراستها وهي في حالتها الدينامكية والمتغيرة وليس في حالة الاستاتيكية والسكون.

وبالتالي فإن تفسيره للب الظاهرة يكون من خلال التعامل معها كبنية اجتماعية وكونها نتيجة علاقات اقتصادية تتملك ضمنا علاقة اجتماعية، وبتالي هنالك مجموعة من العلاقات الداخلية التي لا يلغي ثباتها صفة نسبيتها، فهي مجموعة عناصر تختلف نوع علاقاتها وحجم تأثيراتها تبعا لصفات المرحلة التاريخية والتي تحدد صفاتها العملية الاقتصادية وعلاقتها بالجانب السياسي والقانوني.. لذلك اكد ماركس في مجلده " رأس المال"  أن فهم المجتمع الرأسمالي يحتاج إلى الكشف عن تشكلات البنية الداخلية له والتي غالبا ما يخبئها وراء وظيفته الظاهرية.! لذا فأن المظهر الخارجي السهل غالبا ما يخبئ واقعا آخر، وعليه فهذه البنية الاجتماعية تتشكل في جزء اساس منها بما هو غير مرئي، وكما ذكرنا سابقا فقد جاءت الدراسات الاجتماعية للوظيفين -ومن تأثر بهم - بشكل سطحي بعيدة عن لب الظاهرة الاجتماعية وبالتالي عن علم الاجتماع، وحتى ممن حاول تناولها منهم فقد خلط بشكل غير علمي بين وظيفة ودور ما هو ظاهر وما هو مخفي، خصوصا بين ما هو ديني وسياسي وقانوني وبين ما هو اقتصادي ولم يلحظوا أن الظاهرة الاجتماعية والعلاقات يكمن سرها العلمي في وظيفية البنية المختبئة..

فكشفت الماركسية كيف تخبئ ما تسمى بالظاهرة الدينية أو الثقافية أو السياسية بين طياتها محركا اقتصاديا يتحكم ويفسر تشكلها وتحركها، وحيث أن المعركة الاقتصادية تتفرع إلى مجالات أيديولوجية وثقافية متعددة تكون ميدانا مناسبا لها.. (ان كل المعارك التاريخية سواء جرت في المجال السياسي أوالديني أو الفلسفي أو أي مجال أيديولوجي آخر، ليست في الواقع أكثر من التعبير الواضح عن صراع الطبقات الاجتماعية)982.


____________________________

1 - موريس. مدخل إلى المادية. ص 135 - 136.

2 - المصدر نفسه.  ص141.

3 - ماركس، كارل. الثامن عشر من برومير...، الفصل الثالث، نقلا عن موريس، مدخل... ، ص337.