جواد علي كسار
سفرتان من مرحلة الابتدائية لا تزال ذكرياتها طرية؛ الأولى إلى حديقة الزوراء ومراياها المحدّبة والمقعرّة، والأخرى إلى معمل تعليب كربلاء، عندما وقفنا دهشين ونحن طلاب صغار، أمام عملية إنتاج معجون الطماطة، بداية من غسل الثمرة إلى كبس المعجون داخل العلبة.
من مرحلة الصبا أيضاً لكن بتقدم سنوات، اذكر عدّة رحلات جماعية كنا نقوم بها إلى منطقة عين التمر ومرقد أحمد بن هاشم، تدوم بضعة أيام، تتدافع فيها المتعة بين التجوّل في غابات النخيل والرمان والسباحة في عيونها الصافية الباردة، بعد أن ننصب خيمة نحرص أن تكون تحت ظلال أشجارها الوارفة، يتفرّغ فيها عدد منا بالتناوب إعداد الطعام للباقين، والإشراف على التوزيع العادل للمياه النقية والفواكه والمشروبات الغازية المثلجة، وربما الحلويات، التي نحملها معنا.
كنّا نمضي ساعات النهار في التنقل داخل البساتين، وممارسة كرة الطائرة؛ بديهي ولا شيء يعدل لذة السباحة في العين الثانية (العين الصغيرة البعيدة عن العين الرئيسة قلب المدينة) وسط حرص من أبرز السباحين في المجموعة، على مراقبة من لا يحسن السباحة، استعداداً لإنقاذه إذا حصل أي خطأ. أما الليل فكنا نمضيه في الغالب، وسط مخيم في الصحراء المحيطة بمرقد السيد أحمد بن هاشم، تنعشنا نسمات هواء الصحراء البارد النقي، نستعين غالباً ببريق نجوم السماء الساطعة، وأنوار المرقد بالإضافة إلى حزمة الضوء الكبيرة التي يبعثها "اللوكس" الغازي، لمن يذكره.
ما زالت لذة رحلة من تلك السنوات القصيّة، قارّة في النفس لا تبرحها أخذتنا في جولة إلى السماوة، والناصرية وأهوار الجبايش ومضائف القصب العائمة، وإلى البصرة والقارب الذي أقلنا إلى أبي الخصيب؛ ثمّ صعوداً إلى العمارة وسدّة الكوت وهكذا.
أما أجواء شهر رمضان، فقد كانت فضاءاته المعنوية تنقلنا مرّة إلى مسجد الكوفة والسهلة؛ وأخرى إلى سامراء ومرقد الهادي والعسكري، والسباحة الماتعة في سدّ الثرثار، ثمّ العودة منتصف الليل إلى الكاظمية، وحضور الأماسي الرمضانية الغنية الماتعة للراحل محمد حسن آل ياسين. من حافات تلك المرحلة العمرية البعيدة التي بات يفصلنا عنها قرابة الخمسين عاماً، لا تزال تطغى خواطر رحلتين؛ الأولى إلى السليمانية وجمالها الباذخ وبردها القارس شتاءً، والأخرى إلى الموصل وتأريخية المدينة، وجمال بعشيقة الأخّاذ ومياهها العذبة. أعرف أن أمام العراقي الآن خيارات متعدّدة، أيسرها إيران وتركيا ومصر والإمارات وماليزيا وآسيا الوسطى وحتى موسكو وأوروبا، لكن أعتقد أن السياحة داخل البلد لا تزال تعدّ ضرورة لا بدّ منها، للصحة النفسية والامتلاء العاطفي والتشبّع الوجداني بجغرافية هذا البلد العزيز، ومعالمه الطبيعية والدينية والتأريخية وتنويعاته الاجتماعية والثقافية، وهي تبلغ العشرات بل المئات. كما هي ضرورة أيضاً لرفع معايير الحياة ولرقيّها المدني، ولإنشاء البُنى التحتية التي نحتاج إليها، لتحويل العراق إلى واجهة سياحية للآخرين.