عباس الصباغ
لأن ملف المياه يعدُّ على رأس أولويات الحكومة اذن لا مناص من التدويل، وكما جاء في كلمة السوداني في مؤتمر بغداد للمياه الثالث المنعقد تحت شعار (أهوار وادي الرافدين بيئة شط العرب مسؤولية الجميع): إن انخفاض مناسيب مياه نهري دجلة والفرات يستدعي تدخلًا دوليًا عاجلًا، وإن ملف المياه بات حساسا ومهما في كل دول العالم، وإن أزمة المياه بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولكن لم تتم مكاشفة المواطنين، بسبب العداء في النظام البائد، وقد ورثت حكومات ما بعد التغيير هذا الخلل البنيوي، أو جعل وزارة المياه سيادية، لها جميع صلاحيات السيادة كوزارات الدفاع والخارجية والمالية، وليست هامشية أو ثانوية، اذ يبدو أن اللقاءات الثنائية بين المسؤولين المائيين، خاصة مع دول المنبع لم تخرج بحصيلة تخدم الواقع العراقي، فلم تخرج عن الاطار البروتوكولي والمجاملاتي، ولم تحقق الحد الادنى من الامن القومي العراقي، فمازال الواقع المائي في خطر والخطة الزراعية لهذا العام دون الطموح، فلم يتغير شيء سوى «التأكيد» و»التشديد» على تأمين «استقرار» العراق، كونه يؤسس لاستقرار المنطقة، وهذا الكلام تجترّه وتستمرئه وسائل الاعلام، كأن المعنيين في تركيا وايران ِتهمهم الاقوال وليس الافعال، وما زالت دول المنبع سائرة في حرمان العراق من حصته الرسمية (الكافية) من المياه، إما بغلق الانهار وتغيير مساراتها، كما تفعل ايران أو ببناء سدود عملاقة كما تفعل تركيا كسد إليسو العملاق، الذي سيتحكم بشكل مطلق بتدفق المياه إلى نهر دجلة (وهنالك أكثر من 104 سدود على حوضي النهرين)، والنتيجة واحدة هي المزيد من الجفاف والتصحر وهلاك الزرع والضرع، ودون احترام لأية اتفاقية دولية أو اقليمية تنظّم المياه أو تحدد مستوى الضرر الذي يجب ان يقع على الجميع.
وللتاريخ: في عام 1920 تم توقيع اتفاقيات بين العراق وتركيا وسوريا لتقسيم المياه، وفق المعايير الدولية المتبعة حينذاك، والتي عُززت بعد ذلك بتوقيع معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء في لوزان عام 1923، وهي اتفاقية متعددة الأطراف تضمنت نصا خاصا بمياه نهري دجلة والفرات، حيث جاء في المادة 109 من هذه الاتفاقية (لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر)، اضافة إلى اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية «هلسنكي».
بعيدا عن المجاملات والسفسطات الاعلامية الانشائية أن خفض حصة العراق المائية يعني انخفاض حصة الفرد من الماء المستهلك بشكل يومي، لان العراق يعد أكثر الدول في المنطقة تضرراً بالمتغيرات المناخية، كونه يعاني من تحديات بيئية كبيرة، أهمها الجفاف والتراجع في الحصص المائية، وتدهور الأراضي والتصحر والعواصف الترابية وكان يفترض بلجنة المياه والاهوار البرلمانية أن تتواصل مع الجهات التنفيذية في الحكومة «اللّجنة الوطنية العليا للمياه» والمعنية كوزارة الموارد المائية، فضلا عن التنسيق مع وزارة الخارجية العراقية وتقديم أدلة إلى الجهات الدولية تؤكد وبالصورة حجم الأضرار، التي احدثتها السياسة المائية لدول المنبع وحجم الخسائر الفادحة في الثروة الزراعية والحيوانية وتداعيات تلك السياسة على مجمل النشاطات الاقتصادية والسكانية في العراق.
في ظل استمرار الأزمة (وهي عالمية)، لذا يجب القيام بحوكمة المياه التي هي مجموعة من النظم الملائمة، لتطوير وإدارة الموارد المائية، وتقديم الخدمات المائية على مختلف المستويات المجتمعية، فضلا عن تطبيق سياسة مائية جديدة تعتمد على تقنين استخدام المياه، ناهيك عن تغيير طرائق الري باستخدام التقنيات الحديثة وترشيد استهلاك المياه مثل الرّي بالتنقيط، فضلا عن الشروع بتحلية مياه البحر.
وفي حال لم تنجح المفاوضات مع دول المنبع، خصوصاً تركيا سيكون استخدام أوراق الضغط المالي والتجاري واقع حال، ولا أعتقد أن هذه المسألة ناجعة، لأن تلك الدول لها علاقات تجارية ومالية عالية مع جهات عديدة وتخلي العراق عنها لا يغير من الامر شيئا ملموسا.