في العصور الاسلامية، وفي اوج الازدهار الثقافي للعصر العباسي تحديدا ظهرت مدرستان نحويتان كل لها اساتذتها ومريدوها، عدتا من الظواهر المهمة في الواقع اللغوي العربي وهما مدرستا “البصرة والكوفة”. ثم تبعتهما مدرسة ثالثة سميت “مدرسة بغداد” تنوعت الاراء حولها واختلفت الرؤى بشأنها من قبل اعلام اللغة العربية واساطينها وبعض المستشرقين. وللتعرف على هذه المدرسة وكيف تكوّنت واكتسبت صفتها الكاملة بمعزل عن المدرستين الاخريين واصبحت توازيهما.
حدثتنا الدكتورة هدى ناجي البديري الاستاذة في مركز احياء التراث العلمي العربي بجامعة بغداد والاختصاص في اللغة العربية قائلة: ترددت في مؤلفات المحدثين تسميات مثل (مدرسة بغداد) أو (نحاة بغداد) أو (المدرسة البغدادية) أو (المذهب البغدادي) أو (البغداديين) وهم يعنون بذلك مذهبا نحويّا خاصّا لا هو بالبصري الخالص، ولا بالكوفي الصريح، وإنّما هو مذهب يقوم على الإطلاع على النحويين، وأنّ السبب في نشوء هذا المذهب هو تلاقي المذهبين البصري والكوفي في بغداد على يد شيخين من شيوخهما تنافسا على رئاسة النحو في بغداد وعملا على نشر مذهبيهما بين الدارسين، وهذان الشيخان هما أبو العباس ثعلب الكوفي وأبو العباس المبرّد البصري..
وأضافت: وتتضح آراؤهم بالآتي: ذهب بعضهم إلى وجود مدرسة ثالثة من البصريين والكوفيين وهم البغداديون، وكان من أوائل القائلين بهذا جماعة من المستشرقين منهم (فلوجل) ناشر كتاب (الفهرست) لابن النديم (ت 1870م)، الذي نشر بحثا في المدارس النحوية عام 1862 م، وتابعه بروكلمان الذي قال: “وقد قسّم علماء العربية مذاهب النحاة الى ثلاث مدارس: البصريون والكوفيون ومن مزجوا المذهبين من علماء بغداد”، ثمّ قال: “وسنحتفظ نحن أيضا بهذا التقسيم على الرغم مما يبدو فيه من أنّ الخلاف المزعوم بين مناهج تلك المذاهب لم ينشأ إلّا على أساس المنافسة بين المبرّد وثعلب”.
تأكيد ظهورها من عدمه
لقد ذهب الأستاذ سعيد الأفغاني إلى “أنّ الكوفيين نشروا نحوهم في بغداد التي قصدها البصريون بعدهم, ونشأت عن هذين الفريقين طبقة جديدة في بغداد اتسمت بالاختيار من المذهبين وكوّنت ما عرف بالمذهب
البغدادي”.
وهناك بعض المواقف المعاصرة التي انحازت لفكرة المدرسة البغدادية، مثل الدكتور محيي الدين توفيق، احد الذين ذهبوا الى وجود هذه المدرسة بعد انتقال الدرس النحوي إلى بغداد. وسلّم الدكتور شوقي ضيف بوجود مدرسة بغدادية يقوم منهجها على الانتخاب من آراء المدرستين البصريّة والكوفيّة. واثبت الدكتور مازن المبارك وجود مدرسة بغداديّة ورأى أنّ الزجّاجي بغدادي النزعة مع ميله إلى الأخذ بأقوال البصريين فهو يحيط علما بالمذهبين إلّا أنّه يعتدل بينهما
بلا تعصّب.
كما ظهرت آراء شككت او قللت من وجود مدرسة بغدادية، اذ عارض بعض المختصين تلك الاراء وكان من بينهم الدكتور فاضل صالح السامرائي.
اما الدكتور مهدي المخزومي فوجد ان هناك من الباحثين من ذهب في مدرسة بغداد أكثر من مذهب، ويمثل هذا الاتجاه الدكتور مهدي المخزومي، فقد اثبت في كتابه (مدرسة الكوفة) وجود مذهب نحوي يسمى (المذهب البغدادي) وسمّاها أيضا (المدرسة البغداديّة). وقال في نص آخر: “فليس المذهب البغدادي إلّا مذهبا انتخابيا فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعا”.
وتستدل الدكتورة البديري على ان هذه الأقوال اعتراف من الدكتور المخزومي بوجود مدرسة نحوية بغدادية قائمة على الانتخاب من المذهبين البصري
والكوفي.
توصلت الدكتورة البديري بعد البحث في الاراء المطروحة، بان ماتردد في مؤلفات المحدثين من تسميات مثل (مدرسة بغداد) أو (نحاة بغداد) أو (المدرسة البغدادية) أو (المذهب البغدادي) أو (البغداديين) بأنهم يعنون بذلك مذهبا نحويّا خاصّا لا هو بالبصري الخالص، ولا بالكوفي الصريح، وإنّما هو مذهب يقوم على الإطلاع على النحويين، والخلط بينهما ثم الانتخاب منهما لتكوين آراء خاصّة بهذا الدارس أو ذاك انتخبها
من آراء الفريقين.