إعادة اكتشاف دبلوماسيَّة متعددة الأطراف

آراء 2019/04/21
...

د. غانم الكعبي
 
أغلب منظري العلاقات الدولية يصفون علاقات متعددة الأطراف على أنها إحدى آليات الدبلوماسية الحديثة، كما يتفقون على أنها نظرية وممارسة، كنظرية وضع أسسها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1732 - 1804) صاحب مشروع السلام الدائم، والتي من خلالها أسست في بداية القرن العشرين عصبة الأمم وتطورت بصيغتها الحالية الأمم المتحدة. أما كممارسة ترتكز قواعدها على الدبلوماسية والتحالفات، للحفاظ على الامن والسلم الدوليين في النظام العالمي. 
وهنا لا أناقش النظرية وبعدها الفلسفي، بل سأحاول تحليل السؤال: هل دبلوماسية متعددة الأطراف مقبلة على الزوال؟ ولعل هذا السؤال يقودنا لتساؤل آخر هل هنالك بديل لحل المشكلات والتحديات في النظام العالمي بعيداً عن دبلوماسية متعددة الأطراف؟
التفاهم الذي كان سائداً بشأن الانفتاح على الآخر داخل المجتمعات والذي يعد أحد شروط المناداة بتعددية الأطراف في تحمل المسؤوليات للنظام العالمي، قد يكون بطريقه للنهاية والزوال. فما حصل من تطورات اجتماعية وسياسية على الساحة الدولية، يُظهر بأنَّ دبلوماسية متعددة الأطراف أو بمعنى التحالفات الدولية القائمة أمام تحديات فكرية ومعرفية. فهل فعلاً ما زال الغرب بمعناه السياسي مصدراً للتفاؤل والأمل؟ كون ان بعض الأمور تشي بخلاف ذلك، ومرد بعضه الى نهوض الصين ونجاحها بانتشال 300 مليون شخص من حالة الفقر أي ما يعادل تقريباً سكان أوربا، ما شكل مصدر إعجاب وإلهام لكثير من الدول وخصوصاً أفريقيا التي يطغى عليها الفقر والحرمان، ففي ظل تعرض النظام العالمي الذي تطغى عليه القيم الغربية، لا سيما أنَّ العديد من اللاعبين السابقين والجدد يطالبون بحق إشراكهم بنحو أكبر للمساهمة في النظام العالمي، وهذا ما ينطبق على البرازيل والهند وألمانيا.
إنَّ النظرية الرأسمالية القائمة على الانفتاح والتعددية، والتي بفضلها أصبحت الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب افريقيا وحتى فيتنام، قوى اقتصادية نامية، باتت اليوم محل تشكيك وتساؤل وهذه القوى الطموحة، تعمل بالضد أحياناً من التحالفات القديمة التي تخدم المصالح الغربية، في وقتٍ تشهد فيه المجتمعات الغربية ظهور حركات سياسية جديدة خلال فترة وجيزة، إذ تطالب بالعودة عن الليبرالية والتعددية. وباختصار، لم يعد الفكر الليبرالي بمعناه السياسي المقياس الأوحد ومصدر الإلهام في صياغة شكل النظام العالمي، خصوصاً إذا تعلق الأمر بتبني تحالفات قديمة لقيم معينة. وهذا يقودنا للتساؤل: كيف حصل هذا التحول السريع الذي لم يكن متوقعاً، الى سنوات قريبة خلت؟ المفارقة ان طبيعة نظام التعددية، هو من ادى بالنظام العالمي، لأنْ يصبح بموقف دفاع، اذ تجاذبات الدول المهيمنة والمحسوبة على الغرب، هي التي أظهرت وجود مشاكل في شرعية وجودها واستمرارها، ولهذا يمكن القول إنَّ الدبلوماسية المتعددة تمر بأزمة حقيقية بسبب تجاذب القوى العالمية القديمة والحديثة.
إنَّ التسابق الدولي حول النظم الحاكمة للمجتمعات انتقل هو الآخر لتبتلي به المجتمعات الغربية ذاتها من الداخل، فالديمقراطيات القائمة في عالمنا اليوم، تجد نفسها بعالم وقد تغيرت فيه الشروط، وأمام نقاشات وجدالات حول طبيعة هذه النظم، ومدى فعالية مفهوم التعددية. والحق أضحى هناك من ينافس الغرب بمثاليته بشأن صياغة شكل النظام العالمي، وهذا ما تبين جلياً بالثقة العالية لمن تبنوا أيديولوجيات معينة كالرئيس الروسي السيد بوتن والتركي السيد اردوغان والمجري السيد أوربان، إذ طور هؤلاء وغيرهم أنظمة حكم خاصة قائمة على تمتع أشخاص أقوياء بسلطة القرار، إذ يدير هؤلاء السلطة بنحو اشبه بأنظمة الحكم الشمولية, على الرغم من أنَّ مثل هذه النظم فيها ما يريح من أدوات وعناصر لا غضاضة فيها, وقد تحظى ببعض القبول الشعبي ولعلَّ أصدق مثال، القبول النسبي الذي باتت تحظى به الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا, وصعود الرئيس ترامب لسدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركيَّة.
لذ يمكن القول، إنَّ روح النظم الليبرالية باتت محل شك وتساؤل ويبدو أنها لم تعد وحدها التي تحدد معيار الحداثة للنظام الدولي، فالليبرالية السياسية، بات لديها منافسٌ من نوع آخر وأصوله هذه المرة ليست أوروبيَّة، كما كانت أيام الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وإنَّ هذه النظم الجديدة المنافسة وعلى النقيض من الاتحاد السوفييتي السابق، أظهرت بشكل جلي كيف أنَّ بوسعها تحقيق إنجازات اقتصاديَّة، كما أثبتته التجربة الصينيَّة.
من الواضح إن التحالفات السياسية تستند الى جملة من الشروط، منها تحمل مسؤوليات النظام الدولي، التي أصبحت كما يبدو خاوية خلال الخمس عشرة سنة الماضية خصوصاً ما أظهرته التطورات الدراماتيكية في سنة 2016 بشكل جلي، بدءاً من منحى الاستئثار بالسلطة في تركيا وخروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي ومروراً بتصرفات الحليفين بوتن والأسد وانتهاءً بانتخاب الرئيس الأميركي السيد ترامب, وان التغيرات الحاصلة في الخارطة السياسية الأوروبية تعدُّ خير شاهد على الانقسام الداخلي بين المجتمعات الغربية، ويعكس الصراع المحتدم بين من يتبنى مواقف انعزاليَّة عن الآخرين، مؤثراً الوطن والقومية على غيرها، وآخر ما زال يؤمن بالانفتاح على الآخر المختلف، بمعنى آخر إنَّ هنالك سباقاً محموماً يلوح بأفق النظام الدولي، يتمثل بظهور نظم قريبة الى الشمولية، تقف بالضد من النظم الديمقراطية والليبرالية، وقد يكون هذا سبباً أدى الى ضعف التحالفات القديمة والقائمة عليها دبلوماسية متعددة الأطراف، إذ إنَّ وصول الرئيس ترامب الى سدة الحكم وقراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، يعدُّ اهم التحديات التي تمر بها الاتفاقيات الدولية النافذة، منها اتفاقية (5 + 1) برعاية الأمم المتحدة. إذ أمسى حلف الناتو ضعيفاً خصوصاً بعد مقولة ترامب: “إنَّ الناتو قد عفا عليه الزمن”، كما أنَّ الأمم المتحدة أصبحت في موقف لا تحسد عليه، بتنفيذ قراراتها الدولية، والخلاف واضح وجلي بين دول اعضاء الاتحاد الاوروبي. ويبدو أنَّ هناك سبباً آخر في ضعف هذه التحالفات، قد يكون زيادة نسبة الإرادات الفردية في المجتمعات له الأثر في ضعف التحالفات القديمة، إذ أصبح الفرد أكثر فردانية بالعالم الغربي، وأما في الشرق فقد بدأت معالم هذا الفرد تتضح ولكنْ بشكل ضعيف، والحق إنَّ ما يسمى بـ”الربيع العربي” والاحتجاجات الأخيرة في كل من إيران وتونس، هي ملامح للفرد الشرقي الذي يطالب بحقوقه المشروعة. وللتوضيح أكثر، أصبح الفرد أكثر سلطوية في فرديته وقراراته، فقد أمسى من الصعب أنْ يتفق رب الأسرة مع أسرته على مشاهدة برنامج محدد بالتلفاز، فالكل له الرغبة المختلفة عن الآخر، أي بمعنى ان الارادات الفردية أخذت بالازدياد أكثر مما كانت عليه قبل قرن من الزمن، وهذا ما انعكس على إرادات الدول، فكثير من الدول أمسى بإمكانها المضي بسياساتها الخارجية من دون الالتزام بالتحالفات القديمة، وخير مثال تركيا تجاه حلف الناتو وهنغاريا تجاه الاتحاد
 الأوروبي.