{الهَوْسَة العراقيّة}.. فنٌّ شعبيّ فراتيٌّ المَنبعِ

منصة 2023/05/18
...

  تقرير: رحيم رزاق الجبوري

تبرز وتكتشف العديد من الفنون الجديدة، حينما تمرُّ المجتمعات بأزماتٍ وتحولاتٍ سياسيّة، أو اجتماعيّة، أو اقتصادية؛ تلقي بظلالها وانعكاساتها عليه.. ولأن الفن -وفي أحايين كثيرة- يتصدى لتلك المتغيّرات الطارئة، ويعالجها بسحره، وأدواته، وإلهامه المثير، لما يملكه من سطوة وتأثير في مشاعر وأحاسيس الجماهير.

وهناك مقولة أثيرة، هي: "إنَّ الإبداع يُولد من رحِم المُعاناة والويلات والحروب...!" فتَبزغُ هذه الفنون بتشكيلاتها كافّة - والفنون الشعبيّة، ليستْ مستثناةً من ذلك- لتعكس وتترجم واقع وبيئة وحياة هذه المجتمعات، فمنها ما يأخذُ شكلًا مُختلفًا عن نظيراته، وذلك بإضافة بعض التراكيب والأنماط اللغويّة، واللفظيّة، والحركيّة ليعطيها طعمًا وصبغةً جديدةً، تلتصقُ وتنفردُ بها، كما تستندُ في بُنيتها إلى شيءٍ ثابتٍ، يعدُّ مرجعًا أصيلًا ترتكزُ عليه هذه الفنون، والحديثُ هنا يدورُ ويخصُّ "الهوسة"؛ الّتي لها مُسمّيات أخرى، إذ يعدُّ "الشعر" عمودها الفقريّ، والجانب الأكبر من تكوينها، وكذلك تعتمدُ على الحركات والإيحاءات، فضلاً ن الجوانب التعبيريّة والمسرحيّة الّتي يتفنّنُ المؤدّي باتقانها، فضلًا عن التجمّع البشريّ الّذي يشكّلُ جانبًا مُهمًّا منها، حيث تمارس هذه الجموع فعلًا حركيًّا يصلُ في ذروته حين الانتهاء من الإلقاء الشعريّ للشاعر، ليشترك الجميع بعد ذلك معه، منصهرينَ بعضهم ببعضٍ؛ ومنتجينَ عملًا مسرحيًّا مُتكاملًا يتناولُ ويستعرضُ حدثًا ما.


الجنون والاختلاط والاضطراب

ولمعرفة جذر أيِّ كلمةٍ؛ لا بُدَّ من العودة لأصلها اللّغويّ؛ فـ «الهَوَس» هو اسم يعني: الجنون، وخفّة العقل. كما يعني الاختلاط والفساد والحيرة والاضطراب... وفي هذه المعاني، من باب المجاز، شيءٌ وافرٌ من حماس الهوسة العظيم بتجلّياتها اللفظيّة والحركيّة. أمّا «المِهْوَال»: هوَّلَ الأمر تهويلاً: شنَّعهُ وعظَّمهُ، وبالغَ فيه حتّى صار هائلًا. فهو مهوِّل والمِهْوَال على وزن مفعال أي كثير التهويل صيغة مبالغة من مُهَوِّل...".


ثراءٌ في الألوان الشعريّة

يتطرّقُ ستّار البغداديّ - الباحث في التاريخ العراقيّ الحديث- في معرض تناوله، لهذا الموضوع، قائلًا: "في الأهازيج تتوفّرُ جميع ألوان الشعر العربيّ، من هجاءٍ، ورثاءٍ، ومديحٍ، وغزلٍ، وحماسةٍ، ووصفٍ، وسياسةٍ، وحكمةٍ... وليس ضروريًّا أنْ يكون المهوال شاعرًا، فلربّما يعتمدُ على حلاوة صوته، وقوّة أدائه، وتمكّنه من شدِّ الانتباه، فيما يكتب له شعراء آخرون القصائد والأهازيج لكي يردّدها".


فنُّ وُلِدَ مع ثورة عظيمة

وفي السياق ذاته، يتناولُ عبد الرحيم طايع - شاعر وكاتب مصريّ- هذا الفنّ؛ بشرحٍ وافٍ، قائلًا: "لا يعرفُ المُؤرّخون متى ظهرتِ الهوسة العراقيّة، على وجه الدقّة، لكنّهم يشيرون إلى تجلّياتها القويّة في ثورة العشرين ببلاد الرافدين 1920...". ويضيفُ: "إنَّ الهوسة هي فنٌّ شعبيٌّ لفظيّ وحركيّ، يجمعُ بين الأهازيج الشعريّة؛ الّتي يسمّونها «الهَوْسَات» وبين الرقص ذي القواعد، ويسمّونها «الرَّدْسَة». والهوسات لها نظام صارم؛ حيث لا تزيد أبيات الواحدة على ثلاثة، وبيت الهوسة هو الرابع، ويكون على بحر الخَبَب، مخالفًا للأبيات الّتي تقدّمته، والرقص ضربًا بالأقدام على الأرض، ورفعًا للأيدي فوق الرؤوس، ولا يخلو أحيانًا من هزِّ الأكتاف والأرداف بما يوافق الإيقاع، وهو ما يقومُ به الراغبون من المُلتفّين حول الشاعر، إذا أتمَّ معناه، بينما يردّدون الهوسة ويكرّرونها".


طاقة مُحفّزة واستلهامٌ للعِبر

ويشيرُ طايع في بحثه، إلى أنَّ "مجالات هذا الفنّ متعدّدة، فهو صالحٌ لمعظم المناسبات تقريبًا؛ لا سيّما في الشدائد، ولكلّ مقامٍ مقاله طبعًا. والشخص الّذي يُلقي الهوسة اسمه «المهوال»، ولا بُدَّ أنْ يكون عالِمًا بقواعد الشعر، لكنَّ كثيرًا من المهاويل ليسوا متعلّمين؛ إِلَّا أنَّ آذانهم مستقيمة وذوقهم سليم. وتُمارَسُ الهوسات في الساحات الرحبة المفتوحة؛ بين حشود بشريّة تهواها وتنجذبُ إليها في كلِّ آنٍ.. وتقدرُ الهوسات على شحن الجماهير الحاضرة بالطاقة الإيجابيّة؛ فهي شاحذة الهمم في الكوارث والمُلمّات، ومُضفية المرح في المناسبات السعيدة

 واللّطيفة.