الحاجة إلى التسامح

منصة 2023/05/18
...

أروع مثلٍ شهده التاريخ عن (التسامح) ضربه الراحل نلسون مانديلا، إذ وصلت الممارسة التطبيقيَّة فيه الى أنَّ الجلاّد والضحيَّة كانا يصطحبان معاً السواح الى الجزيرة التي كان فيها الضحيَّة سجيناً ويشرحان لهم معاً كيف كان يجري التعذيب في أقبية سجونها. فلماذا لا نكون نحن، ولو على قدرٍ منه، مع أنَّ التسامح يعدّ ركناً أساسياً في الإسلام الذي هو ديننا؟

إنَّ التسامح لا يعني أنْ نتخلى عن معتقداتنا وأفكارنا، وإنما يعني الامتناع عن غصب وإكراه الآخرين لاعتناق آرائنا، أو قهرهم للتخلي عن آرائهم، أو الاستهزاء بوجهة نظرهم أو النيل منهم. 

والتسامح يجعلنا ننتبه الى قضيَّة فكريَّة غاية في الأهميَّة هي الإقرار بأنَّ الحقيقة ليست حكراً لطرفٍ دون أطرافٍ أخرى. ويتعاظم مفهوم التسامح كونه منظومة أخلاقيَّة قيميَّة وإنسانيَّة تحكم السلوك الأخلاقي للإنسان، وآليَّة لضبط هذا السلوك، ونهج لثبات المفهوم في العقل والقلب. وفي جانبه الأخلاقي والاجتماعي يعني التسامح قبول الآخر بحقوقه في الوجود والحريَّة والحياة وصيغ التعبير عن مشاعره ومعتقداته مهما كان دينه وعرقه ومذهبه.

 ومع أنَّ هنالك أكثر من مصدر لإشاعة ثقافة التسامح، فإنَّ الأسرة يقع عليها الدور الأكبر في تغذية الناشئة بثقافة التسامح، ليس فقط بالإرشاد والتبصير بما ينجم عن الكراهية، بل بتجسيد التسامح في تصرف الآباء والأمهات أمام أطفالهم، إذ أشارت الدراسات الى أنَّ الأبناء الذين يرون قيم التسامح بين والديهم يكونون في المستقبل قادرين على استيعاب الآخرين.

صحيح أنَّ عمق الجراحات في تاريخنا وبشاعة ما حصل من قتل للخصوم وتعذيب لمن يحمل أفكاراً غير أفكار السلطة لا تجعلنا قادرين على أنْ نتصرفَ كما تصرف شعب 

مانديلا. 

ولكنْ أليس من الواجب أنْ نحتذي بما فعله نبينا المسامح العظيم حين دخل مكة فاتحاً وقال لمن قتل أصحابه المسلمين (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وما فعله مع (وحشي) قاتل عمه العزيز على قلبه الحمزة لحظة جثا على ركبتيه قائلاً: (سامحني يا رسول الله) فتنازعته في اللحظة ذاتها قوتان: الانتقام من قاتل أشد المحاربين وأعز الناس على قلبه، وبين قوة التسامح التي أعلتها قيمه الراقية وغلبّتها على انتقام سهل، قائلاً بما فاجأ الجميع: (سامحتك ولكنْ اغرب عن وجهي الآن).

وثمة حقيقة سايكولوجيَّة: أنَّ اللا تسامح يجعل الإنسان عدوانياً كارهاً حتى لنفسه ويائساً من إصلاح الحال، ويعيش عمراً أقصر، بينما التسامح يجعله محبّاً لنفسه والآخرين ومتفائلاً بالخير والسعادة.. ويعيش عمراً أطول.

نلتقيكم الخميس القادم..