علي المرهج
لا يعني التعادل أنه المساواة، ولكنه يعني التقابل، بمعنى وجود فكر أو حركة «هي الحركة المقابلة أو المناهضة لحركة أخرى»، لذا تقتضي التعادلية كما يرى توفيق الحكيم الإيمان بوجود «آخر» يختلف عنك قد يعادلك في حركته، ليتحقق نظام التوازن في الحياة الاجتماعية والفكرية. التعادل هو الذي يحكم نظام الكون، فلو اختل لابتلعت الشمس الأرض.
التنفس عند الإنسان هو حركة تُعادل بين الشهيق والزفير، فإن طال أحدهما توقفت حياة الإنسان. هناك تعادل بين العقل والقلب، والحياة الروحية هي التي تحكم التعادل بين الفكر والشعور. كل مرض نفسي أو عصبي يمر فيه إنسان ما، فهذا يعني أن هناك خللا في التعادل، وما يميز الإنسان السوي أنه كائن متعادل روحيًا وماديًا. التعادل قانون الحياة الذي يحكم التوازن في الوجود، وكأنه يحافظ على وجود القوتين: المادية والروحية.
في الحياة خير وشر، ووجود أحدها يقتضي وجود الآخر، وكأن توفيق الحكيم يتحدث بلغة (هيجل) من أن الشيء يُعرف بضده، فوجود قوتين متقابلتين، يعني وجود فكرة ثالثة هي «التعادل» الذي يحكم موسيقى التوازن في الوجود.
قد يعيدنا تفكير توفيق الحكيم لقبول فكرة ثنائية الخير والشر الزرادشتية، أو الله والشيطان في الديانات الإبراهيمية، وإن لم يؤمن بأن الخير متأصل في النفس البشرية، لأنه يرى أن المجتمع أو «الغير» (الآخر) الذي يكشف لنا عن خيرية الذات وشرانيتها، أي أن الاجتماع الإنساني هو السبب في إفرازهما، وهما «كاليل والنهار يتعادلان»، وإن كان يذهب توفيق الحكيم إلى قبول فكرة أسبقية الشر على الخير في الوجود الإنساني، بسبب حب الإنسان لذاته، لأنه نزوع غريزي في كل الموجودات الحية، لأن «حُب الغير أشق وأصعب من عند الإنسان من حُب النفس، فالخير وليد الزوح والتهذيب، ولكن الشر وليد الغريزة والطبع».
الخير والشر ليسا من صفات الحيوان، «والضمير كالخير، والشر لا بد لوجوده من وجود الغير: أي المجتمع، فالإنسان المنعزل في جزيرة نائية، يعيش من دون ضمير، لأنه يعيش من دون خير أو شر وغير» أو «آخر» ينافسه.
«الضمير هو الشعور بالعدل».
هناك ضرورة لوجود الفن والأدب، وهي ذات الضرورة التي نحتاج فيها للعلم، الأدب والفن بكل تجلياتهما هما تعبير ومحاكاة للطبيعة، حتى في نزوعهما لخلق رؤية جديدة، فإنما هو إبداع على قاعدة مخالفة لـ «قياس الغائب على الشاهد» كما يقال عند أهل علم الكلام، وهو قياس منطقي يستخدمه علماء الكلام ليقيسوا فيه وجود الله وكماله على أساس نقص الوجود وعدم كماله.
إن غلبة العلم ونزعته على الأدب والفن والدين في القرن التاسع عشر وما بعده، أخل بالتعادل الذي سبق في الوجود من جهة خدمة الفن والأدب للعمل، وخدمة العلم للدين والفن والأدب، لتترجح كفة العلم، ويختل توازن الوجود
الإنساني.
اختل التعادل حينما تدخل العقل في الحكم على طبيعة الإنسان الفطرية في النزوع للإيمان الديني الذي منح الروح الفنية قدرتها على «تجلي الجمال»، لذلك يدعو توفيق الحكيم إلى الفصل بين القوتين الروحية والعقلية، لتفعل كل واحدة فعلها في مجالها، ونُبقي على التعادل بينهما في الحياة الإنسانية لنضمن
سلامتها.
توجد الحيونات والطيور في عالمها، وهي لا تتعلم ولا تتدرب، ولكن تحكمها «الغريزة»، فنجدها تصنع لنا عوالم من الجمال لا أجمل منها!.
لا معنى للبحث عن أي شيء في الوجود وفق فرضيات العلم وقوانينه، ولا يُعيب توفيق الحكيم نزعة العقل للشك، لأنها واحدة من وظائف تكوينه، لأن العقل إذا إنقطع عن الشك توقف عن الفاعلية، ولكن مهمة العقل معرفة الحقائق النسبية لا المطلقة، ولذا ينبغي أن تُترك الحقائق المطلقة للقلب الذي من أجلى مهماته الإيمان، لأن «العقل البشري في كفة يُعادله الإيمان.. في كفة.. بهذا التعادل يعيش الإنسان ويعمل..».
ينتقد توفيق الحكيم فكرة «تأليه الإنسان» التي سادت عصر الأنوار وما بعده، وعلى الإنسان أن يُدرك أنه ليس وحده في هذا الوجود، وإن كانت ميزة الإنسان أنه كائن قادر على تطوير نفسه، ولكن هذا التطور لا يدفعه للإيمان بفكرة أنه «الأقوى» كما ذهب إلى ذلك فلاسفة وعلماء نظرية التطور، إنما عليه أن يفكر كيف يكون هو «الأرقى»؟، والأرقى هنا تختلف عن الأقوى، لأن الرقي هو تقدم في المعارف والفنون والآداب، بينما الأقوى هو حكم الغاب.
الأرقى هو الإنسان القادر على تنمية معارفة لاكتشاف نفسه والعلوم المحيطة به والإنسان «الآخر»، الذي يعيش معه على هذه «البسيطة» (الأرض).
الإنسان الأرقى هو الذي يتمكن من الإرتقاء في سلم المعارف والأداب والفنون ليكون «أيقونة» في مجتمعه، ساعيًا للكمال الإنساني الذي يُعد درجة من درجات الرقي للكمال الإلهي.