ضرورة تحسين الظروف الاقتصاديَّة والنفسيَّة لهم شبحُ الانتحارِ يزحفُ نحوَ عقول الشَّباب

ريبورتاج 2023/05/18
...

 فجر محمد

 تصوير: خضير العتابي

عزلته واكتئابه دفعاني الى مراقبته، ومتابعته خوفاً من إقدامه على أيِّ خطوة طائشة قد تودي بحياته، فمنذ أن خسر عمله، ابتعد تماما عن مجالستنا أنا وأخوته. بهذه العبارات ابتدأت حديثها هناء تحسين واصفة حالة ابنها البكر وتابعت القول: "أخاف أن يدفع الاكتئاب والعزلة ولدي الى الانتحار، ومما زاد من مخاوفي، ما أسمعه من أخبار واحصائيات عن زيادة هذا الامر بين صفوف الشباب".  

هناك مؤشرات دفعت الخبراء والمختصّين بالصحة النفسيَّة الى دق ناقوس الخطر، ومنها ما تلتقطه مواقع التواصل او الانترنت من حوادث انتحار، إذ أصبح هذا النوع من الأخبار، شبه يومي، فقد سجلت نسبة مقلقة، خصوصا لأعمار المراهقين، ومن هم في ريعان الشباب أيضا. فقد أشارت وسائل إعلام ومواقع انترنت، أن العراق سجل في العام المنصرم 772 حالة، وبمعدل حالتي انتحار يوميَّاً.

وتتحدث مدرّبة الحياة الدوليَّة المعتمدة من البورد الالماني هاودم المفتي عن انتشار ظاهرة الانتحار بين الشباب، بأنّها يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار وان تكون هناك مساهمة جديَّة من قبل الأسرة أولا ثم المدرسة والجامعة والمجتمع والدولة، في سبيل ايجاد علاج لهذه المشكلة التي ظهرت في المجتمع مؤخرا وبشكل واضح. وتحث المفتي على الاهتمام بالشباب لأنهم اللبنة الأساسية في بناء المجتمع والدولة بأكملها، لذلك من الضروري الانتباه الى أي شاب يعاني من اختلال في الاتزان العاطفي والفكري، والبحث عن الأسباب التي تؤثر عليه وتسبب له الاضطراب وعدم الراحة.


عوامل اقتصاديَّة

أحيانا أقف عاجزاً أمام المشكلات والعثرات الاقتصاديَّة، التي أراها تزداد كل يوم أمامي وأفكر كثيرا بإنهاء حياتي، ولكن عندما أنظر الى بناتي أتراجع عن هذا القرار، بكلمات مشبّعة بالأسى والمرارة يتحدث قاسم كاظم ويقول: "لم تسنح لي الفرصة أن أكمل دراستي، لهذا تركت مقاعد الدراسة مبكراً، وانخرطت في سوق العمل الحر برفقة والدي ولكن مع مرور السنوات تنقلت بين مهن متعددة، ولكني لم أجنِ منها ما يسد رمق العيش".

في تصريح أفادت به وزارة التخطيط فإنَّ نسبة البطالة للأعمار بين 18 الى 30 عاما تجاوزت الـ 20 بالمئة، ويبين الجهاز المركزي للاحصاء بالتعاون مع منظمة العمل الدولية أن نسبة البطالة وصلت الى أكثر من 16 بالمئة، بين أفراد المجتمع الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 الى 63 عاما ويعدون نشطين اقتصاديَّاً.

ترى القانونيَّة والاكاديميَّة والناشطة بحقوق الإنسان الدكتورة بشرى العبيدي، أن حالة اليأس والضياع التي يشعر بها الشاب بسبب انعدام فرص العمل، والعيش الكريم وفقدان الأمل دفعته الى اللجوء للانتحار وإنهاء حياته، خصوصا عندما يمرُّ بأزمة اقتصاديَّة ونفسيَّة عصيبة قد تصل الى مرحلة ينهي فيها حياته بنفسه، وشعوره بالعجز وعدم قدرته على توفير لقمة العيش لأسرته في حين يجد الآخرين غيره ممن لا يملكون سوى نصف مؤهلاته الدراسيَّة والاجتماعيَّة، قادرين على الحصول على كل ما يريدون ويحتاجون، في حين يعجز هو عن توفير الحاجات الأساسيَّة له ولأسرته.


تكاتف الجهود

تحاول منظمة الصحة العالميَّة، تحشيد جهودها مع منظمات ومؤسسات مختلفة من أجل النهوض بالصحة النفسيَّة التي تكاد تكون مهملة، في الكثير من دول العالم إذ بحسب احصائيات ودراسات متنوعة، فإنَّ هناك أكثر من مليار شخص حول العالم يعانون من تراجع صحتهم النفسيَّة، ويلقي العديد من الخبراء باللائمة على مواقع التواصل الاجتماعي ففي أغلب الأحيان تعد عوامل مساعدة ومشجعة لقضايا الانتحار، وفقا لهؤلاء الخبراء.

وتلفت هاودم المفتي الى أن الشاب قد يلجأ الى الانتحار بسبب الظروف الماديَّة، ونتيجة ما يشاهده على منصات شبكات التواصل الاجتماعي من حياة فارهة لمشاهير من مختلف الجنسيات، ولهذا يقع على عاتق الأهل منذ الطفولة غرس مبدأ القناعة بداخل صغارهم، وافهامهم ان كل ما يشاهدونه في تلك المواقع هو عبارة عن خدعة ويجب ألا يتأثروا بها. ولو تعمّقنا في حياة هؤلاء المشاهير، سنجدهم يعيشون حياة عادية وقد يصلون الى الانتحار أحيانا.

ويشاطرها الرأي الباحث الاجتماعي ولي الخفاجي الذي يرى بأنَّ نسبة الانتحار زادت عما مضى، مبينا أن أفضل من كتب وتوسّع في هذا الموضوع المهم هو الفيلسوف وعالم الاجتماع اميل دوركهايم، إذ قسم الانتحار الى أنواع منها الأناني ويحصل عندما يصل الفرد الى مرحلة العزلة عن المجتمع، فيصاب بالاكتئاب والقلق ويهيئ نفسيَّاً لإنهاء حياته، أما النوع الثاني الذي تحدث عنه الفيلسوف فهو اللامعياري ويحدث نتيجة اضطراب وانحلال القيم المجتمعيَّة، إذ يفقد الانسان الضوابط التي اعتاد عليها من عادات وتقاليد ودين وأخلاق، أما النوع الثالث من الانتحار فهو القدري عندما يصل المجتمع الى اليأس بسبب انعدام مقومات الحياة والمعيشة والظروف الاقتصاديَّة الصعبة.


فرص العمل

تتوجّس هناء من ولدها خيفة، فهي تراه منعزلاً ومبتعداً تماماً عن تلك الأجواء التي اعتاد عليها من الخروج برفقة الاصدقاء، وزيارة الأقارب، وتعتقد الأم أنّها مؤشرات خطيرة تحتاج الى الانتباه وان لاتهمل. وتقول هناء: "بعد أن فقد سامي عمله ما زال يبحث الى الان عن فرصة أخرى ولكن تسيطر عليه حالة من الاكتئاب واليأس، بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها الأسرة".

وتبيّن العبيدي أن المسؤولية الأكبر لتوفير فرصة عمل ولقمة عيش كريمة، تقع على عاتق الدولة ولا تعني توفير فرص داخل دوائر الدولة فقط، وإنما محاولة إنعاش القطاع الخاص وإعادة تدوير عجلة المعامل والمصانع، التي بمقدورها أن تشغل الآلاف من الشباب وبمختلف المهن والاختصاصات، لافتة الى ضرورة التوقف عن هدر الأموال في مشاريع استثمارية استهلاكية مثل المطاعم والمولات والمحلات التجارية، والالتفات عوضا عن ذلك الى المشاريع الانتاجية المهمة التي بمقدورها أن تخدم الناس والاقتصاد الوطني، والتوقف عن اعتماد النفط مصدراً وحيداً للاقتصاد، خصوصاً مع توجه العالم اليوم، الى ايجاد بدائل عنه، وكل هذا من اجل محاولة تحقيق العدالة الاجتماعية بين الجميع.


أمراض اجتماعيَّة

قد يتناهى الى الأسماع حالات انتحار تحدث لنساء شابات ممن هن في مقتبل أو أواسط العمر، وتكمن خطورة هذا الامر وفقا للدكتورة بشرى العبيدي، أنّها قد تكون جرائم قتل بغطاء الشرف او الانتحار، ولا بدَّ من الانتباه الى هكذا حالات. ونبّهت العبيدي الى ما يعرف بـ (الطشة الاجتماعية)، إذ يلجأ العديد ممن فقدوا أهليتهم النفسيَّة والعقليَّة الى تقليد الافلام والمسلسلات، واذا بهذا الامر يودي بحياتهم لاحقاً.

قد يدفع الاستهزاء بأحدهم، وجعله أضحوكة بين أقرانه وزملائه الى إصابته باضطرابات نفسيّة واجتماعيّة، وهذا ما ذكرته هاودم المفتي، فهناك العديد من الأشخاص يجعلون غيرهم محطاً للسخرية والاستهزاء فيتسبب هذا الأمر بضرر نفسي كبير لاحقا. وتكاد تجزم المفتي أن الاضطرابات السلوكيّة التي ترافق الشاب، هي نتيجة لطفولة عصيبة فمن المعروف أن الأعوام الخمس الأولى في حياة الفرد، هي من تصقل شخصيته ومشاعره وأفكاره مستقبلاح لذا لا بدَّ من الاهتمام بهذا الامر بشكل كبير جدا، وتوعية الأهل وتثقيفهم.

من الخطأ تجاهل مؤشرات الخطر، والاضطرابات النفسيَّة التي تظهر على أي فرد، وهنا يقع على عاتق الاسرة الاهتمام به واسناده ودعمه نفسيّاً، وتؤكد هاودم المفتي أن الانتحار هو نتيجة لمشاعر غير متزنة يشعر بها الشاب، بعد ان قطع شوطا من الألم النفسي والافكار المضطربة، فالانسان تحركه مشاعره ومن يصل الى مرحلة انهاء حياته فقد تعرض الى أذى وألم نفسي اما من الاهل، او المدرسة او الجامعة او الاصدقاء المحيطين به، فضلا عن الاضطرابات التي يعيشها في محيطه الخارجي.

وتحث المفتي اي شخص يعاني من اضطراب او ارتباك نفسي، ان يلجأ الى مختص يساعده ويقف الى جواره في محنته، ومن الجدير بالذكر ان هناك اسبابا عديدة تقف وراء زيادة حالات الانتحار، منها أولا؛ غياب التوعية النفسية والانتباه الى مشاعر القلق والاكتئاب، والخوف وعدم الشعور بالاستقرار وغياب الطمأنينة، من ثم الانتباه الى ظاهرة التحرّش التي قد يتعرّض لها الصغير في طفولته، مما يولد لديه حالة من الاكتئاب والخوف خصوصا اذا تكررت لاحقا في مراحل عمريَّة مختلفة، فإنَّ هذا قد يدفعه الى الانتحار.

وتنصح المفتي المقبلين على الزواج والانجاب، أن يعوا حجم المسؤولية الكبيرة في إنشاء أسرة متزنة ورصينة، كي ينجبوا أبناءً يتمتعون بالصحة النفسيّة فيصبحوا أفراداً منتجين في المجتمع لاحقا، ولان هناك زيادة واضحة في حالات الطلاق فإن هذا الامر يستدعي الانتباه الى الصحة النفسية اكثر، ويعد الانتحار بمثابة الصدمة النهائيَّة التي يتلقاها المحيطون بالمنتحر، الذي قبل ان يصل الى الانتحار مر بسلسلة من الاشارات منها تصرفات وسلوكيات وانطواء وعزلة وعنف كلامي، ولكن في أغلب الأحيان قد تنكر هذه الاشارات ويتم تجاهلها من قبل الأهل.  

كما يرجح الخبراء أن من أسباب الانتحار ايضا هو غياب الوازع الديني، وعدم التحلّي بالايمان بالله وأغلب الديانات السماوية تحرّم الانتحار؛ لذا على الشباب أن يحاولوا قهر الصعاب والتسلّح بالإرادة والقوة، وألا ينزلقوا إلى هذا المصير المظلم.