سليم سوزه
ما زال «العرق» واحداً من أهم العوامل التي ساهمت في خلق عالمٍ عنصري غير عادل، عالم يستند إلى البايولوجيا في تفسيره للأشياء والظواهر الطبيعية والإنسانية. لقد كان «العرق» وما زال بريئاً من الصفات التي لُحِقَت به. لم يكن سامياً ولا منبوذاً، ولم يكن راقياً ولا منحطاً، بل مجرد سلالة انتجتها صدفة الوجود في الجغرافيا الواحدة.
استعرتُ عنوان مقالتي هذه من عنوان كتاب المفكر الكاميروني الشهير أشيل مبيمبي «نقد العقل الزنجي»، ذلك الذي يقول إن الزنوجة ليست عرقاً يتسامى فوق جغرافيته وسياقه الاجتماعي والسياسي، بل مفهوم اعتباطي عام، يساوي بين زنوج أفريقيا والزنوج الذين وُلدوا وتربوا في قارات العالم أجمع، بوصفهم عبيداً لا حول لهم ولا قوة.
لقد صنع الاستعمار الغربي، بحسب مبيمبي، مفهوماً «زنجياً» عاماً وجامعاً عن السود في كل بقاع العالم، غير آخذ في نظر الاعتبار أن تجربة الزنجي الأسود المُستَعبَد في الولايات المتحدة الأمريكية مختلفة ومغايرة تماماً عن أسلافه وأقرانه في دول أفريقيا.
ظهر الزنجي في الوعي الغربي واحداً وموحداً وعابراً للحدود في تفكيره ونمط حياته.
إنه ذلك الكائن الخارق للطبيعة والحدود، الذي يسهل على الغرب تصنيفه ووضعه في السلّم الاجتماعي المناسب له، من أجل تسليعه وبيعه كأي بضاعة تُعرض في الأسواق.
ليس كل السود زنوجاً ولا كل الزنوج سودٌ.
إنهم أفراد عاشوا تجربة اجتماعية مختلفة، حتى لو كانوا من نسلٍ أسود واحد.
يريد مبيمبي القول إن السواد حاضر في البشرة فحسب، وليس في التجربة الانسانية والشخصية لكل فرد أسود عاش حياةً وتجربةً مختلفتين.
ومع ذلك، ظل المفهوم الغربي للزنجي يحصر السود في عرقهم الأفريقي، غير آبه بتجربتهم الفردية التي حدّدتها الجغرافيا قبل العرق.
مبيمبي في ذلك لا ينقد العقل الزنجي، بوصفه عقلاً أسودَ صنعه الفرد الأسود ذاته، كما يبدو ذلك من عنوان كتابه، بل إنه ينقد الوعي الغربي في نظرته للعرق الزنجي (وأي عرق بشكل عام) بوصفه وحدة واحدة صلبة ومتجانسة.
هو بهذا ينقد طريقة التفكير العرقية [الزنجية]، بوصفها تجلّياً من تجلّيات التفكير الاستعماري، الذي برّر استعباد شعوبٍ تحت ذريعة علوية عرقٍ على عرق آخر.
كما إنه ينقد أيضاً وقوع السود تحت هذه الهوية المُصطَنعَة للزنوجة، التي صار السود أنفسهم يتبنونها ويمشون معها بأريحية تامة، من دون الانتباه إلى أنها ليست هويتهم، بل هوية الغرب عنهم.
هذه ليست هويتهم، بل هوية وهمية صنعها لهم الغرب وصار السود يدافعون عنها بأنفسهم.
ومثل أي عرق آخر، ليست الزنوجة (بوصفها اجتماعاً وسياسة) بايولوجيا، بقدر ما هي مجموعة خطابات وممارسات اجتماعية وسياسية يُراد لها أن ترتبط بالدم جوهراً، لا بالعقل وحرية الاختيار.
العرق شيء وخطاب العرق شيءٌ آخر.
الأول بايولوجيا والثاني سياسيا.
عدم الفصل بين العرق وخطاب العرق يجعلنا كلنا «زنوجاً» من نوع آخر. حتى الأبيض الغربي زنجي في هذا المفهوم، بحسب تعريف مبيمبي للزنوجة، إذا عرَّفَ العرق على أنه حالة جوهرانية صلبة وليس خطاباً سياسياً وصناعة اجتماعية.
هذا هو جوهر فكرة مبيمبي.
من «نقد العقل الزنجي» لمبيمبي، يمكننا أن ننقد «العقل العرقي» بشكل عام ونقول إن «العرق» الذي استُغِلَّ لصناعة العنصرية والكراهية والأحقاد، لم يكن سوى ممارسة سياسية هدفها هيمنة جماعة على جماعة أخرى تحت ذرائعٍ شتى.
لا خلاف بين عرقٍ وآخر، فكل الأعراق تولد سواسية، حتى يحوّلها مجتمعها إلى قيمة سياسية في ما بعد.
لا مشكلة في العرق نفسه؛ المشكلة في القيم التي تُضاف إلى هذا العرق أو ذاك بعد حين، فيصبح العرق عندها نظرية سياسية ومفهوماً اجتماعياً وثقافياً، يحدّد للمرء مرتبته في سلّم البشرية جمعاء وفقاً إلى هذه القيم أو تلك. لم يكن العرق ولن يكون سوى بايولوجيا فحسب. الأفكار والايديولوجيا والتوجهات السياسية لا علاقة لها بالعرق، بل بتجربة الانسان الذاتية وسياق مجتمعه التاريخي والثقافي.
المرء أكبر من عرقه وأوسع من أن يوضع تحت وصاية هذا العرق وسلطته. إنها السياسة التي تصنع للعرق خطابه ونموذجه الفريد والمثالي، وتحاول فرضه على الأعراق الأخرى قسراً من أجل الهيمنة والسيطرة، لا غير.