العلمانيَّة التركيَّة تواجه الإسلام السياسي

آراء 2023/05/23
...

 سناء الوادي 


تابعنا في الآونة الأخيرة ما قامت به وسائل الإعلام العربية والغربية على حدٍّ سواء، من مراقبة كثيفة لأدق تفاصيل الانتخابات الرئاسية في تركيا، ولفتني مدى الإشادة الكبير بالعمق الديمقراطي، الذي تمتعت به بنسبة مشاركة بلغت 89% والمنافسة الحادّة بين المرشحين الأبرز رجب طيب أردوغان عن تحالف الجمهور، وكمال كليجدار أوغلو عن تحالف الامة، ومجرّد السير نحو جولة ثانية من الانتخابات لحسم المعركة الانتخابية، كانت صفعة تثير الانتباه لما يحدث من تغييرات عميقة في الشارع التركي قد تفوق الصراع على المقعد الرئاسي أهمية، ألا وهي تراجع أنصار حزب العدالة والتنمية الذي قدّم نفسه أساساً كعلماني معتدل ينادي بالمساواة والحرية الدينية وحماية الحقوق، وما يقابله من صعود لأنصار إعادة علمانية أتاتورك والتشدد للقومية التركية، ذلك التيار الذي ساد تركيا ما بعد الحرب العالمية 

الأولى.

الداخل التركي الآن مشتتٌ بين راغب بالاستمرار مع رئيسٍ تقلّد منصبه منذ عشرين عاماً «أردوغان»، كان قد نقل تركيا نقلة اقتصادية نوعية ونهض بها فصارت في مصاف الدول الكبرى صناعياً وتجارياً، مستغلاّ الموقع الجغرافي المتميز وجعله من بلاده نقطة ارتكاز سياسية إقليمياً وعالمياً، وذلك باعتراف الجميع وبإرسائه دعائم العلمانية المعتدلة، التي أعادت لمسلمي تركيا حقوقهم التي قيّدها عليهم مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال آتاتورك، الذي منعهم من ممارسة شعائرهم علنية أو حتى سماع صوت الأذان بالعربية، ومنع النساء من ارتداء الحجاب في الشارع، رغبة منه آنذاك بخلع عباءة الدولة العثمانية بكل مظاهرها، ونقل أنقرة إلى الوجهة الغربية وتعميق العلاقات مع أوروبا وامريكا، مع التشدد للقومية التركية وحشد كل الوسائل والأدوات في سبيل تحقيق ذلك، فنحى منحى العلمانية القاسية بإقصاء الانتماءات الدينية، وتفعيل دور الدولة، لتغيير النظرة الغربية لدولة الخلافة العثمانية، وكنتيجةٍ حتمية لذلك فقد خُلقت أجواء الحريات، فتمخضت عنها العديد من الأحزاب، ومنها ما كان مناوئاً للأخطاء التي تكشفت على الأرض، والتي نادت برفع الظلم عن بعض الفئات وتردت الأوضاع الاقتصادية بسبب الانقلابات المتكررة على الحكومة، وتفشى الفساد وضعفت تركيا كثيراً، كلُّ ذلك قد مهد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية بتوجهه المعتدل، ليستلم زمام الأمور وينهض بتركيا مجدداً وبالحقيقة هذا ما حدث.

وفي هذا السياق لا يمكن إنكار دور أردوغان الفاعل لتطوير بلاده وتحسين علاقته مع جيرانه العرب، ومحاولته الدخول بالاتحاد الأوروب، وكذلك انضمامه لحلف الناتو، فكان ندّاً لكبار الدول ونأى بدولته عن الاملاءات الخارجية.

لكنه وبالعودة إلى الوراء عقدٍ من الزمن ومنذ تفشي وباء الربيع العربي في الدول الجوار منه، استدار أردوغان بسياسته ليغير البوصلة ويستضيف الإسلام السياسي ممثلاً بالإخوان في أحضانه، فأظهر للعيان وجهاً غير الذي كان، وقلب الطاولة على الجميع، وأبرز في مقدمة المشهد عودة العثمانية الجديدة، وبدأ بممارسات فعلية لتحقيق الطموح القديم بتنفيذ الاتفاق الملّي القاضي، برفض حدود تركيا الحالية المتفق عليها إثر اتفاقية لوزان، فاحتل الشمال السوري ويضيق الخناق على الشمال العراقي الكردي، وتدخل عسكرياً في ليبيا ووقع في خلاف مع اليونان حول جزر بحر إيجه، وساهم في تمويل الجماعات المتطرفة إعلامياً ومادياً، وحرم العراق من نصيبها من مياه أنهارها، وقد رفض الاتراك ما يقوم به أردوغان، تمثّل ذلك بقيامهم في تموز للعام 2016 بمحاولة انقلابية باءت بالفشل، فقد ضغط أردوغان كثيراً على الاقتصاد وضيق الخناق على المستثمرين وانهارت الليرة التركية وارتفع التضخم.

 حقيقةً قد فهم أردوغان الرسالة فأجرى عقب الانقلاب الفاشل التعديلات الدستورية، التي شددت من قبضته على جميع مناحي الدولة وحول نظام الحكم من بيني إلى رئاسي محض، وفي خضم ذلك اصطدم بتلك الشرائح المجتمعية، التي رفضت من الأساس تعريب تركيا وأسلمتها، وأن تكون مرتكزا للعالم الإسلامي، وظلت تنادي بأن تركيا جزءٌ من الغرب وبضرورة الحفاظ على القومية التركية والعودة للعلمانية، لأنه وكما يبدو فإن محاولة نشر أسلمة السياسة هي فقط ورقة بيد أردوغان لخلق قاعدة شعبية له، فيكون امتداداً لفكر معلّمه نجم الدين أربكان مع التطرف بممارسة ذلك. 

وأما في ما يخص التشتت الحاصل في الشارع التركي، فقد لمع نجم كليجدار أوغلو، متأملين بعودة الدولة لمسارها الطبيعي بالنمو والتنمية الداخلية، وغض النظر عن الصدامات الخارجية مع جميع الدول، وتعزيز وجود تركيا كقومية متفردة بحد ذاتها تحترم سيادة الدول، وبالطبع لا يخلو الأمر من تجاذبات أصوات الناخبين باللعب ببيدق اللاجئين السوريين في تركيا، وهو ما يشكل الموضوع الضاغط على الاقتصاد والشعب معاً.

من يرأس أنقرة في النهاية هو شأن يهم الداخل قبل الخارج، لكن لا ينفي ذلك التداعيات، التي سترخي بظلالها على كل الأزمات العالقة في المنطقة والتي تشكل تركيا فيها زاوية المثلث الخانق، كل السيناريوهات مطروحة على الطاولة، والنتيجة التي ستعقب انتخابات الجولة الثانية في 28 الجاري هي التي ستكون الفصل.