أ.د عامر حسن فياض
توسل العقل الفارسي القديم وسائل مختلفة، واستخدم أدوات متنوعة، للتعبير عن موقفه من ظاهرة السلطة السياسية، فاعتمد الاسطورة والحكمة والموعظة والكلم القصار، لا سيما في تأملاته بشأن نشأة هذه السلطة وآليات عملها وطبيعة وظائفها، ولجأ إلى المقارنة والخيال في تأملاته حول شكل السلطة المنشود والمفضل لدى الفرس.لقد نسج العقل الفارسي القديم، قبل زرادشت، أفكاره حول السلطة السياسية المتجسدة في شخص الملك، وعَبّر عن تصوراته بشأن اصلها ونشأتها الاولى وشكلها وطبيعة وظائفها وأهدافها
معتمداً التصوير الاسطوري الخالي، فزعم ان (هوشنك) كان ملك الاقاليم، وقاهر الخلق، ومُعمر الارض، وهو وفقاً للاسطورة الفارسية القديمة، أول من استخرج الحديد واتخذ منه الادوات للصناعات، وقدر المياه في مواضع النفع، وحض الناس على الزرع والضرع، ورسم لهم حفر الأنهار وغرس الاشجار، وأمرهم بقتل السباع، واتخاذ اللباس والفرش من جلودها، وذبح الغنم والبقر والأكل من لحومها.
وان هوشنك هو ايضاً أول من بنى الابنية ومصر الامصار، ووضع الحدود والأحكام، وآثر العدل حتى تلقب به فيدعى (فيجداد) أي (أول من حكم
بالعدل).
تقدم لنا حكاية اختبار احد ملوك الفرس معلومات مفيدة عن وظيفة السلطة ومسؤولياتها وواجبات الملوك واعوانهم، فتروي أن أحد ملوك فارس القدماء، جلس على عرشه في أول ايام حكمه، فاجتمع اليه وجوه مملكته ووفود الملوك، يمتحنون عقله وسيرته، فقالوا: ايها الملك، عشت الدهر، وملكت الاقاليم، إن رأيت أن تمثل مثالاً نعمل عليه ونقتصر في انفاذ الامور عليه! فقال الملك لكاتب رسائله: إن كتابك لساني، والمخبر عن غائب أمري، فاختصر الطرق إلى الفطنة، وأحط بحدود الامور.
وقال لصاحب خراجه: إنك عدل في ما بيني وبين رعيتي.
وقال لصاحب جيشه: إنك الحصن من العدو.
وقال لصاحب حرسه: إنك جنتي التي أجتن فيها، وعيني التي أنظر بها.
وقال لصاحب شرطته: إنك ظلي في رعيتي فألبسهم الأمن، وأشعرهم المخافة.
وقال لحاجبه: إنك عدل على مراتب خاصتي، ازرع في قلوب الجميع محبتي.
وكان الوجه النقدي لتأملات العقل الفارسي للسلطة السياسية، المتخذ صورة الحكم والمواعظ وقصار الكلم، هو الاقرب إلى عقول وألسنة المحكومين المغلوبين على أمرهم، يوجهونها إلى صدور الحكام منفسين بها عن غيضهم، ومعبرين عن رفضهم لأنظمة الحكم المتسلطة على رقابهم، يصوغونها احياناً في قالب نقدي مباشر وصريح، أو غير مباشر ومبطن، وفي احيان أخرى يلبسونها شكل نصائح للحكام من ملوك وولاة، ومواعظ تحضهم على مفارقة استبدادهم وتخفيف طغيانهم ومراعاة جانب رعيتهم البائسة، أو يضعونها في صورة حكم على ألسنة حكامهم، فتكون تكفيراً، بالقول لا بالفعل، عما تجترحه أيديهم وأنظمة حكمهم من آثام في حق رعاياهم، وليكون لهذه الحكم وقع أشد على النفس وأبعد اثرا، فقد جاءت أو وضعت على آلسنة الملوك أنفسهم، وبخاصة كسرى الأول الملقب «انوشروان» في العصر الساساني حتى اصبح مثلاً اعلى للملك العادل، فقد قيل إنه جمع عماله وأمرهم برفع الظلم عن رعيته فلم يسمعوا له، فأهوى على الظالمين منهم ينكل بهم حتى اصلحوا امرهم.
وقيل إنه امر بوضع سلسلة ذات نواقيس موصولة بقاعة الحكم في قصره، فمن كانت له شكوى جذب السلسلة لتدق النواقيس ويسمعها الملك، فيحقق له العدالة حتى ليقال إن السلسلة لم يجذبها احد طوال سبع سنين ونصف.
ولا تعدو هذه الحكايات ان تكون مزاعم تصعب البرهنه على صحتها، لكن العقل الشعبي الفارسي القديم، صاغها وتداولها ليعبر عما في نفسه من آمال وآلام، ووضعها على لسان ملك اشتهر في التاريخ الفارسي بعدالته واصلاحه لنظام الضرائب الذي هو أكثر الانظمة مساساً بحياة الرعية وتأثيراً فيها، فأحس رعاياه بأن عدالته، مقارنة بظلم اسلافه، هي أصل العدالة ومبدأها.
وتقول الحكمة الفارسية القديمة، إن انوشروان أجاب عن السؤال عن أحق الناس بالملك بأنه اشدهم محبه لصلاح الناس، وأعلمهم بالتدبير، وأشدهم سلطاناً على هواه وأقهرهم له.
ولا شك أن هذه الاجابة تنطوي على تحديد لشروط الأهلية للحكم ومسؤولياته والتي ترى انها تتمثل في:
- إرادة خير الرعية وصلاح أمرها.
- المعرفة بشؤون إدارة الحكم.
- السيطرة على رغبات النفس والتحكم في أهوائها.
أما إجابته عن السؤال عن حق الملوك على الرعية، وحق الرعية على الملوك، فهي أن للرعية على الملوك أن ينصفوهم وينتصفوا لهم، ويؤمنوا سربهم، ويحرسوا ثغورهم، وعلى الرعية للملوك النصيحة والشكر.
ويعني هذا أنه جعل واجبات الملوك أكثر من واجبات الرعية، فهم مسؤولون عن تحقيق العدالة وضمان الامن والدفاع عن البلاد، أما الرعية فليس عليها في مقابل ذلك إلا طاعة ملوكها وشكرهم.
وتمثل هذه الافكار، على تنوع صيغها أو الاشكال التي تتجلى من خلالها، أحد الاساليب التي لجأ اليها العقل الفارسي القديم لنقد السلطة الحاكمة ومقاومتها، وإن كانت مقاومته هذه سلبية وغير مباشرة.
وكان الهروب من الواقع إلى الخيال صيغة اخرى من صيغ المقاومة السلبية للسلطة، حيث زعم الفرس وجود مملكة هي جنة ارضية سكانها احرار لا قيود عليهم، وملوكهم أثرياء يختزنون ذهب الضرائب، مصهوراً في أوان خزفية يكسرونها ويستخرجون ما بها عندما يعوز المال ممالكهم، يلقبون بــــــ «الخان» والامبراطور والشاه
والصوفي.