مقدمات في منظومة الإحياء الديني عند الصدر الثاني

العراق 2023/05/24
...

 جواد علي كسار

ننطلق في هذا المقال من المنهجية الإحيائية التي تغوص عميقاً في الجانب المعرفي للسيد محمد الصدر، وتأخذ بأيدينا إلى مكوّناته العقدية والفقهية والفكرية، بوصفها البُنى التحتية التي أنتجت الحركة الإحيائية للسيد الشهيد. وفضيلة هذه المنهجية أنها تمنحنا فرصة اكتشاف المعادلة التي أفرزت هذه الشخصية بخصائصها الإحيائية، لكي يكون بالمقدور فهم نهجها ومواصلته عبر مجموعة من النماذج الوصفية التي نعرض لها في هذه الذكرى.

مواجهة الرؤية الساكتة

يرتكز السيد الشهيد إلى فهم فقهي مؤسّس على فهم كلامي (معرفي) بأن المسلمين مسؤولون عن تطبيق وامتثال الأحكام الإسلامية بكلّ تفاصيلها على الصعيدين الفردي والاجتماعي والأحكام الخاصة والعامة، وذلك في مقابل فهم آخر يقول بتعطيل بعض الواجبات في عصر الغيبة. على هذا الضوء ينبغي لكلّ مسلم أن: "يراجع الأحكام الإسلامية ليعرف ماضيها من جوانب شخصية وجوانب عامة، لكي يطبّقها على حياته الخاصة والعامة، ويباشر العمل الاجتماعي العام طبقاً للتكليف الإسلامي بالجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو مكافحة الظلم". وإذا كان ثمّ اتجاه يسعى إلى أن يتلفع ببعض الأحاديث في السكوت عن الحاكم الظالم، فإن الصدر الثاني ناقش بعمق مرتكزات هذا الفقه السلطاني، وانتهى بوضوح إلى: "أن الأمر بالصبر مع الحاكم المنحرف وتحمّل ظلمه وتعسّفه بالسكوت، غير مطابق للقاعدة الإسلامية، والأخبار الدالة عليه لا يمكن قبولها بحال".


من التغيير إلى الدولة

لكن هل يقتصر النظر الفقهي للسيد الشهيد على الجانب السلبي المتمثل بمكافحة الظلم ومواجهة الحكام، وممارسة الإصلاح الاجتماعي عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يتجاوز ذلك إلى الجانب الإيجابي المتمثل بتأسيس الدولة الإسلامية؟. يؤمن الصدر الثاني صراحة بأهمية الدولة وأن التطبيق الديني يبقى من دونها ناقصاً، فالإسلام أسّس دولة كاملة في أول البعثة ثمّ: "دعا إلى تأسيسها في كلّ مجتمع مؤمن بالإسلام، وأوضح أنه بدونها يكون التطبيق الديني ناقصاً".


الإسلام منهاج الثورة

ينطلق السيد الصدر من قناعة تامة في أن الدين عامة: "كان ولا يزال أساس الثورات والمطالبة بإقامة الحقّ والعدل على مدى التأريخ"، وأن الإسلام خاصة هو منهاج النهضة في العالم الإسلامي لاسيّما في العصر الحديث، وابتداءً بغزو نابليون لمصر، وانتهاءً بغزو الإنكليز للعراق خلال الحرب العالمية الأولى، واجه المسلمون الاستعمار مواجهة دموية: "وقد كان الاتجاه العام لهذه المواجهات هو التضحية في سبيل الإسلام".

بيدَ أن ما حصل خلال العقود الأخيرة هو: "أن حاولت المادية المعاصرة السيطرة على الأيديولوجية العامة للثورات في عالم اليوم".


أزمة القيادة والوعي

في تحليل يسوقه الصدر لواقع المسلمين في التأريخ وفي الحاضر، باحثاً عن أسباب التأخّر وما أصابهم، يرصد من بين العوامل التي أدّت إلى ذلك دور القيادة: "فإن الأمة بدون القائد ليست إلا أفراداً مشتتين مبعثرين، لا يمكنهم أن يحفظوا أي مصلحة تتعلق بالمجموع، ما لم يرجع الأمر إلى الاستقطاب القيادي والتوجيه العام المركزي".

ثمّ يلفت النظر في نص آخر إلى أن الأمة غُلبت في منازلاتها الكبرى بسبب فقدان القيادة والوعي: "فقد أثبتت غالب حوادث التأريخ فشل الأمة الإسلامية في حروب الدفاع حال فقدانها للقيادة والوعي".

على هذا الأساس ينبغي أن نتفهّم تأكيد الصدر الثاني البارز على القيادة ومركزيتها، وفي ضوء هذه الخلفية من الوعي لدور القيادة ينبغي أن ننظر إلى عنوانه الذي طرحه بوصفه ولياً لأمر المسلمين، فقد رام من ذلك إسباغ المزيد من المركزية على دوره في العراق، وإلغاء شرعية القيادة الطاغوتية للنظام البعثي القائم يومذاك.

انطلاقاً من هذا الفهم العميق لدور القيادة، وممارسة التغيير من خلال الإسلام، نهض الصدر الثاني بحركته التي استوطنت بأصدائها ربوع الرافدين، وذلك أنه: "كلما توفر للقائد الإسلامي المقدار الكافي من الناصرين والمؤازرين، وجب عليه إسلامياً اجتثاث حكم الظالمين"، كما يقول نصاً.


مواجهة اليأس

علينا أن نسجّل صراحة أن حالة اليأس من تغيير الداخل العراقي على أساس إسلامي استولت حتى على بعض الاتجاهات الناشطة والفاعلة في هذا الوسط، فضلاً عمّا تشبّعت به قواعد شعبية عريضة راحت تُعلن أنها مع الحلّ وإزالة الكابوس الجاثم على صدر العراق، حتى لو جاء ذلك من الشيطان.

أما الصدر الثاني فقد سار باتجاه معاكس تماماً، وعضد ممارسته الإيجابية التي غرست الأمل بإمكانية التغيير على أساس الإسلام ومن خلاله؛ عضدها بوعي نظري متألق على هذا الصعيد.

لقد أشار صراحة بأن بعض الأوساط: "تعتقد بأن العمل الإسلامي ضدّ الظلم والظالمين غير مؤثر بأي حال"، ثمّ أوضح أن: "هؤلاء هم اليائسون الذين سيطرت هيبة الانحراف وهيمنة الظلم السائد في البشرية على نفوسهم، فاعتقدوا بعدم جدوى أي شيء من الإصلاح أو الأمر بالمعروف في هذا المجتمع الفاسد، ومن ثمّ اضطروا إلى السكوت وترك العمل انتظاراً لظهور المهدي عليه السلام، ليكون هو الرائد الأول في إصلاح العالم".


قوانين الفعل التغييري

لقد كان الصدر واضحاً أشدّ الوضوح وهو يواجه اليأس بحقائق واضحة نظرياً، عضدها فيما بعد بخطوات عملية انطلقت بها حركته الإصلاحية الإحيائية العملاقة.

فقد أكد أن هذا العصر الذي نحياه يتطلب مشاركة بالعمل الجادّ المنتج من قِبل الفرد والمجتمع. وهذا العمل يتطلب توفر ثلاثة عناصر مقترنة عقائدية ونفسية وسلوكية، وإلا تحوّلت حالة الانتظار عند الفرد والمجتمع إلى: "التعسّف النفسي المبني على المنطق القائل (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المنتج لتمنّي الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك".

العراق ساحة معقّدة للعمل الإسلامي وشعبه عانى الكثير، لكن بدلاً من لغة الإحباط ومنطق اليأس راح السيد الشهيد يستشرف في هذه الصعوبات آمالاً طموحة لدور مُشرق لهذا الشعب في حركة الإسلام لا يوازيه دور أي شعب آخر من شعوب المسلمين. ولم يكن الصدر لينطلق في ذلك من عواطف مجانية، بل ارتكز إلى قوانين الفعل التغييري، ومنها القانون الذي ينصّ بأن وعي الأمة لا يتكامل بالاسترخاء والدعّة والراحة؛ وكذلك القانون الذي يفيد بأن العمل للإسلام كلما واجه عقبات أكثر كان أعمق في أثره التكاملي، وبنص تعبيره: "إن الإيمان والعمل الإسلامي، كلما واجه من العقبات أكثر واحتاج من التضحيات إلى عدد أكبر، كان مقرّباً إلى الله تعالى بشكلٍ أعمق، وموجباً لتكامل الفرد بنحوٍ أسرع".

على ضوء ما مرّ انتهى الصدر الثاني إلى قانون آخر في الفعل التغييري يحوّل الظلم والأوضاع الحالكة؛ إلى فرصة ثمينة لتوفير الإخلاص في الأمة، بحيث أن المجتمع الذي ينأى بنفسه بعيداً عن أجواء الظلم والانحراف ليختار الرفاه لا يستحقّ الموقع المرموق في التخطيط الإلهي الذي يسير بالبشرية صوب اليوم الموعود؛ وأن الأمة التي لا تعمل ضدّ الظلم ولا تفكر برفعه هي أمة خائنة.

وبتعبيره "قدس سره": "إن ما يرفع درجة الإخلاص في الأمة ويوجد شرط الظهور، هو العمل ضدّ الظلم فعلاً.. ومن هنا نعرف أن الفرد الذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم، أو أن المجتمع الذي يعيش في الرفاه النسبي بعيداً عن هذه الظروف، فإنه لن يعمل ولن يستطيع الوصول إلى حدّ الوعي والإخلاص المطلوب.. كما أن الأمة إذا شاع بين ظهرانيها الظلم والتعسّف، وكانت راضية به مستخذية تجاهه، لا يوجد العمل فيها ضدّه، ولا التفكير لرفعه أو التخفيف منه، إذن فسوف تكون أمة خائنة يتسافل إخلاصها وينمحي شعورها بالمسؤولية، وتحتاج في ولادة ذلك عندها من جديد، إلى زمن مضاعف ودهر طويل".

على هذه الأرضية من الوعي النظري ألقى السيد الشهيد بنفسه في أتون المخاطر، وجرّ إليه الشعب العراقي، حين بعث فيه عوامل الكرامة والعزة من خلال الإسلام، وأسكت إلى حدّ كبير عوامل الخوف والاستخذاء، بحيث حوّل المحنة الشاقّة التي يعاني منها هذا الشعب إلى محضن للعطاء الكريم، واستبدل حالات اليأس التي استبدّت بالكثيرين داخل العراق وخارجه إلى آمال طالعة على خير عميم، وأمل بالفرج القريب.

على ضوء هذا الفهم الذي تعضده أدلة شرعية انتهى في قناعته إلى أن فضيلة العمل الإسلامي في هذا العصر كفضيلة اعتناق الإسلام نفسه، والدخول إليه لأول مرّة: "إن العمل الإسلامي في سبيل الله بمختلف مستوياته، مما يقع في عصر الهرج والفتن والانحراف له من الفضل عند الله وعند رسوله، كفضل اعتناق الإسلام نفسه".

بهذا الفهم المتماسك الذي يجمع بين أصالة العقيدة وعمق النظر الشرعي والوضوح الفكري، وبين سلوك علمي يستضيء بهذه الرؤية النظرية ويحتذي بها، واجه الصدر الثاني منطق التشكيك واليأس ومزّق ستر الدجل والضلال التي أسّس لها النظام البائد خلال عقود، ليكشف عن معدن كريم للإنسان العراقي، ازداد أصالة في أتون المحنة والظلم بدلاً من الاستحالة إلى الضدّ.


الفقه الاجتماعي

كمؤشر على أصالة رؤيته فقهياً ونظرياً للعمل الاجتماعي طرح الصدر قبل عقدين ونصف من تصدّيه المباشر لحركته التغييرية التي انطلقت مع منتصف التسعينيات من القرن المنصرم؛ طرح رؤية تفصيلية للتكليف الشرعي في هذا العصر ولموقف الإنسان والمجتمع بين الاتجاه الداعي إلى العزلة والآخر الداعي إلى العمل، على ضوء الأسس الشرعية وقواعد الإسلام العامة، وقد عالج ذلك كله في نطاق عنوان دال اختاره هو: "الفقه الاجتماعي".

يقول في خاتمة المناقشة: "استطعنا أن نحمل فكرة كافية على صعيد الفقه الاجتماعي، عن العمل والعزلة في نظر الإسلام، من حيث الوجوب والحرمة والجواز".

لقد كتب عن "الفقه الاجتماعي" من الزاويتين الشرعية والفكرية وهو بعد في السابعة والعشرين من عمره، وبعد عقدين ونصف من ذلك التأريخ عاد يجسّد هذا الفهم على أرض الواقع وينفّذ أطروحته بحذافيرها، من خلال حركته الإصلاحية الجامعة التي أحيت نبض الكرامة مجدّداً في الإنسان العراقي، ونفضت عنه غبار الأقاويل.

في إطار مقولة "الفقه الاجتماعي" سعى السيد الشهيد إلى تأسيس العمل الاجتماعي على أصول شرعية تتمثل أساساً بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يكتب "قدس سره": "ينقسم العمل الاجتماعي الإسلامي المقصود به الهداية والإصلاح إلى وجهتين رئيسيتين؛ أولهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وثانيهما: الجهاد أو الدعوة الإسلامية".

ثمّ يعطي فهماً تغييرياً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من خلال قراءة للشروط الشرعية، بالأخصّ شرطا احتمال التأثير وعدم احتمال الضرر. وبشأن الجهاد يتحدّث في الجهاد الدفاعي الذي تكتسب ممارسته طابعاً مشروعاً في عصر الغيبة بعكس الجهاد الابتدائي الذي يحتاج إلى إذن المعصوم؛ يتحدّث عن الجهاد التثقيفي ويميّز في شرط احتمال التأثير بين ما يمارس على مستوى الفرد الواحد، وما يُمارس على مستوى التثقيف الاجتماعي، لينتهي إلى أن ما يُمارس على المستوى الاجتماعي يترك أثره ولو على المدى البعيد، وبذلك لا ينبغي تركه.


إشكالية التقية

وبشأن التقية تلفت النظر في طرح السيد الصدر، نقطتان:

الأولى: صحيح أن التقية تعني الحفاظ على النفس من الضرر الذي لا مبرّر لتحمّله شرعاً، إلا أن ذلك يكون على أساس المحافظة على عزّة المؤمنين وكرامة خط الإيمان: "لا حرصاً على الحياة، بل لأجل الحفاظ على المعتقدين بالحقّ الواقعي من المسلمين".

الثانية: لا تعني التقية تجميد العمل بل إخفاءه، وبتعبيره "قدس سره" تعني: "إخفاء الأعمال الاجتماعية الصالحة، التي يكون في كشفها نقصان لنتائجها أو اجتثاث لجذورها".


قانون الترابط بين الأجيال

لقد كان واضحاً لكلّ من راقب المشهد أن المسار الذي اختطّه الصدر يفضي به إلى الاستشهاد لا محالة، بالأخص مع استصحاب المصير الذي انتهى إليه مَن سبقه من الأعلام المجاهدين وفي الطليعة أستاذه الصدر الأول.

ومع ذلك لم يتراجع ولم ينكص، وقد كان بإمكانه أن يفعل لو أراد، بل غذّ الخطى متعجّلاً إلى رضوان الله، والمهمّ الذي يعنينا في هذه الحالة، أنه فعل ذلك لا عن يأس - وهو الذي ملأ أجواء العراق بالإيجابية - ولا بدافع ما تحظى به الشهادة في سبيل الله من كرامة وحسب، بل أيضاً إيماناً منه بأن خزائن الخير التي فجّرها على الساحة العراقية لن تضيع منها ذرة، بل ستتوارث معطيات حركته الأجيال.

كيف؟ يجيب "قدس سره": "ويتمّ ذلك عن طريق ما نسمّيه بـ(قانون الترابط بين الأجيال)، فإن كلّ جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوى فكري وثقافي إلى الجيل الذي يليه، ويكون على الجيل الآخر، أن يأخذ بهذا المستوى قدماً إلى الأمام، ثمّ أنه يعطي نتائجه إلى الجيل الذي بعده وهكذا".

وعيه لهذا القانون الذي يسمّيه في مكان آخر بقانون تلازم الأجيال، جعله يحثّ خطاه صوب الشهادة وهو مطمئن إلى أن جهوده الجبارة لن تضيع هدراً من الناحية الموضوعية. بيدَ أن تعبيره واضح في أن من مسؤولية الجيل الحاضر أن يحمل ثمرة هذه الحركة المباركة إلى الجيل الآخر، في معنى يرمز بوضوح إلى دوام خطّ المسؤولية على الجميع، فغياب قياديته الفذّة لا يعني انتفاء المسؤولية، بل ينبغي أن تتوافر عناصر الاستمرار، لكي يعطي قانون ترابط الأجيال نتائج أكثر فاعلية على خطّ التكامل الإيماني.


ملاحظة

النصوص التي وردت للسيد الشهيد الصدر الثاني هي مقتطفات من موسوعة الإمام المهدي عليه السلام التي صدر منها أربعة مجلدات ضخمة تقع في ألفين وثمانمائة وست وأربعين صفحة.

وقد سقتُ النصوص من دون الإحالة إلى صفحاتها متعمّداً، طمعاً في أن أشقّ للآخرين سبيلاً في الانفتاح على الآثار العميقة للراحل الكبير "قدس سره" لينظروا بأنفسهم الثراء الباذخ الذي تحويه نصوصه.