في ذكرى استشهاده..الصدر ظاهراً وباطناً

العراق 2023/05/25
...

أحمد عبد الحسين

ثابتٌ في الإلهيات أن لكلّ شيء ظاهراً وباطناً، وهما متلازمان بحيث لا يصحّ ذكر أحد منهما وفهمه إلا بلحاظ الثاني، بدلالة أنهما اسمان من الأسماء الإلهية الحسنى لكنْ لا يحسن أن يذكرا إلا سوياً، كالاسمين الآخرين «الضارّ والنافع» اللذين لا تكتمل دلالاتهما إلا حال إيرادهما معاً.

أغلب الاختلالات التي حدثتْ في فهم الدين، قديماً وحديثاً، راجعة إلى عدم إيفاء هذا المطلب حقه. فكان هناك مستغرقون في الظاهر متغافلون عن الباطن، صارت النصوص الدينية على أيديهم أشبه ما تكون بلائحة تجريم طويلة تستقصي كل منحى روحيّ لإطفائه. يقابلهم في الضفة الأخرى مستغرقون في الباطن وشؤونه لا يقيمون وزناً للظواهر فأنتجوا حركاتٍ ومذاهبَ كانت فيها للرغائب وهوى النفس والحدوس حصة كبرى.

قلّة قليلة تنبهتْ إلى ما في مقولة عليّ وهو سيّد الربانيين: “فلينظرْ ناظرٌ أسائرٌ هو أم راجعٌ. فإن لكلّ ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه”. ذلك أنّ مَنْ غفل عن هذا التوازن إنما هو راجع القهقرى في عين الوقت الذي يظنّ 

فيه أنه سائر.

يقف في وسط هؤلاء القلّة في زمننا، السيد محمد الصدر “الذي تحل هذه الأيام ذكرى شهادته”، فهو في أعلى مراتب الفقاهة وعلوم الظاهر التي ألجأته إلى أن يقطع الطريق من غرفة الدرس فقيهاً إلى الشارع قائداً ومصلحاً، لكنه في الوقت عينه كان مستجمعاً لعلوم الباطن، برغم أنّ ما نثره في كتبه الأخلاقية يشي بأنه كان يتستّر على كثير من كشوفاته. وقارئ كتابه “فقه الأخلاق” يجد أن عباراته تقع في التخوم التي يلتقي فيها ظاهر بباطن.

قال في هذا الكتاب مثلاً “الكثرة غير دالة على الحقّ”. ويمكن لمن يستهويه الظاهر أن يفهم منها أنها رجع صدى للآيات القرآنية التي تذم الكثرة “وأكثرهم للحق كارهون. أكثر الناس لا يعلمون. وقليل من عبادي الشكور. وكثير حق عليه العذاب”. بينما يمكن لمن هو مستغرق في البواطن أنْ يفهم منها أنّ رؤية التكثر في الموجودات حاجبة عن رؤية الحقّ من دون أنْ تكون هناك وحدة جامعة لهذا التكثر. فكمال الرؤية ـ كما هو مقرر في العرفان ـ رؤية الكثرة في عين الوحدة، ورؤية الوحدة في عين الكثرة.

لهذه الجملة ظهر وبطن، كما كان للسيد الشهيد وسيرته وكلماته ظاهر وباطن لا يمكن أنْ نفهمه ونفهمها إلا باستحضارهما معاً.