د. جبار صبري
لقد راهنَ الفكرُ كثيراً على شفرة: إنَّ الإنسانَ بما يعنيه غيره. وهذا الرهان المؤدلج قد حدد العلاقة على نحو سلبي: هناك كائن أولي لديه القدرة على إنتاج معنى وهناك كائنٌ ينتظر منه ذلك الإنتاج. وهذا قد خلق لوحده خصيصة التراتب، ومن ثم حطّ من قدر الثاني ورفع كثيراً من قدر الأول. وهكذا بدت هويتنا نحن من ينتج المعنى لذلك الآخر المنفصل عنّا عظيمة وكلية وينبغي على من لا يماثلها الإذعان أو الانصياع لها بالمماثلة أو أنه سيلقى منّا تهمة الخائن أو الكافر أو الجاهل. ولو أنه راهن على: أنَّ الإنسان بما سعى، لكان خط المعادلة قد تغاير سبباً ونتيجة وبلغ الفرد من سعيه اكتمال وجوده ولم يقرن هذا السعي بثنائية متراتبة ولا غيرها. وبقي الكائن الفرد أصيلاً في لعبة الخطاب وما يليه من جماعة وغيرها ثانوياً ولا قيمة أو اعتبار له.
إننا كثيراً ما نتجه الى مراجعة العلاقة مع الآخر على نحو ما يؤثر بهويتنا اقتراباً أو ابتعاداً. بقدر اقتراب الآخر منا أو بقدر ابتعاده عنا. وهذا الاتجاه المراجعاتي فرضه قسراً تمثلنا لمفهوم الآخر. لكن لو أننا راجعنا الآخر عبر تمثلنا لمفهوم بديل يجعل من الفرد كائناً ساعياً لكان التفكير به قد شغلنا من حيث فكرته وسعيه لا من حيث هويتنا في سعيه. وفي هذا افتراق طرق أو وسائل في تبني أنموذج الخطاب وتحريك فاعليته من مدار الهوية الى مدار الفكرة والعمل. من مدار قياس الفرد في ظل الذات الجماعية الى قياس الفرد في ظل ذاته الخالصة. وبالتالي إننا سنعبر ما يسمّى بالهوية المغلقة والتي تفترض وجود ذات جماعيَّة خالصة الى ضفة الذات الأحاديَّة وهي الذات التي تجاورنا أو تضاعفنا في مشوارها الانطولوجي أو الدلالي. كثيراً ما غالى علم الاجتماع في تحديد مسار الفرد من تحديد عضويته الجماعية. بل جعل الفرد بملازمة الجماعة كما هي الحال لعتلتين مسننتين مرتبطتين ببعضهما ارتباطاً وثيقاً ولغاية اشتغال أو تحريك الفرد وهو إحدى تلك الآليتين تحديداً في ذلك الارتباط الجماعاتي. وبدون ذلك الارتباط كأنه - أي الفرد – سوف يصبح عاطلاً أو مثلما نلحظ اليوم في الجماعات التكفيريَّة يصبح كافراً. هكذا يكون الفرد مرهوناً بجماعة. ورهانه هذا إنما يعبّر عن أصالة وجوده. وان أي فكّ أو انفكاك من رابطة ذلك الرهان سيكون محض افتراء وقطيعة مع الهوية. وهو الأمر الذي يتعاظم أيضاً بصورة هذه الجماعة كذات كاملة وتامة وهي متقاطعة مع جماعة أخرى مما لا يتبقى من تلك الهوية إلا وجه الحدّ الفاصل والمانع من لا تغيير بوصلة العلاقة بين طرفين، أفراداً او جماعات، الا في ظل حدّ الجماعة.