أميركا.. عالم بلا منافس

آراء 2023/06/06
...






  د. أثير ناظم الجاسور

بعد انتهاء الحرب الباردة والتغيير الحاصل في عملية إدارة النظام، وتحوله من عالم القطبين المتحاربين من أجل الهيمنة والنفوذ إلى عالي القطب المسيطر المنتصر، بأفكاره وايديولوجيته المُعززة بالمنطلقات الفكرية الغربية الليبرالية- الرأسمالية، تغيرت طبيعة وشكل النظام من حيث التوجيهات والاستراتيجيات، التي تعتمد على تعزيز المكانة، من حيث التحول في التفكير الاستراتيجي للقوى الفاعلة، بعد هذه المرحلة المرعبة، التي مر بها العالم انقسمت الأفكار والطروحات بين عالم بات خاليا من الحروب والصراعات والرعب النووي.. إلخ، من التحديات المعرقلة، لنمو الدول وتطورها، وهذا الرأي تبنته الدول الاوروبية التي انهكتها الصراعات بعد أن تحولت أراضيها إلى ساحة حرب وصراعات، الجانب الاخر من التفكير تبنته مراكز التفكير الأميركية ومؤسساتها الرسمية، التي حاولت أن تجعل من العالم الجديد عالماً خاليا من القوى المنافسة، في سبيل تحقيق هيمنتها على العالم وقراره الأممي، من خلال تحقيق فكرة الهيمنة والسيطرة الفردية دون منافس، فكانت تجربتا حرب الخليج الثانية 1991 والبلقان بحربي البوسنة والهرسك 1995 وكوسوفو 1999 من تجارب اختبار قوة الدولة المحكمة.
لعب التفكير الاستراتيجي الأميركي دوراً في بلورة فكرة التركيز على أن تحوي وتحارب كل قوة تحاول أن تظهر قوتها في مختلف المجالات، لتقطع الطريق حتى على فكرة التخصص في حال حاولت بعض القوى أن تهيمن على جانب دون آخر، من خلال رسم استراتيجيات قد تكون معرقلة للهيمنة الأميركية في مناطق مختلفة من العالم، لكن الإدارات الأميركية في مرحلة محددة كانت تتعامل مع دول النظام، وفق تفكير الرابح والخاسر الذي انتجته الحرب الباردة، فلم تكن الاستراتيجيات الموضوعة، تستهدف كل نقاط الخطر في العالم، فكان التركيز على دول محددة تُحاول تحجيم دورها للخلاص من أن تكون منافسا لها  مستقبلاً.
التحول الأكبر أو الحدث الأكثر خطورة على مكانة الولايات المتحدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي عدها الكثيرون نقطة التحول المهمة، والاخطر في العالم، لما له من وقع كبير غيرت كل ستراتيجيات الدولة العظمى ورؤيتها للعالم، من ثم سارعت الإدارة الأميركية ومراكز صنع القرار فيها، إلى تقسيم العالم إلى حلقات ودوائر، تم تحديدها من حيث المهم والأهم والخطر والأكثر خطورة، فتم التعامل مع العالم هذه المرة بجدية أكثر وإتباع سياسة التصنيف والعزل، من حيث تحجيم قوى ومحاصرة أخرى وإخراج قوى من ساحة الصراع، في هذه المرحلة المهمة تم التركيز على نظام أوسع لا يشمل الدول فقط، بل كل التنظيمات والحركات، سواء القاعدة المنفذة للهجمات أو الحركات الأخرى، من خلال فكرة شيطنة التفكير الإسلامي وكل الدول التي تدعم أو هناك شك بدعمها لهذه التنظيمات، فكانت أفغانستان عام 2001 التجربة الأولى، التي من خلالها ساعدت على التقرب المباشر من الدول الحليفة والعدو، من حيث جعل الفوضى الأفغانية عامل ضغط على المنطقة ومصدر تهديد لمصالحها، لتكون النموذج الأول في سياسة الفوضى الأميركية، لتصبح القاعدة وطالبان المهدد والحجة، التي لابد من أن يرضى الجميع بالوجود الأميركي في سبيل القضاء عليهما، خصوصاً والحركتين اصبحتا تنظيمات مبعثرة يصعب السيطرة عليهما، اما الدائرة الأخرى كانت منطقة الخليج العربي أو الأكثر شمولاً المنطقة العربية تحديداً العراق العدو الأساس في هذه المنطقة، الذي بات من أخطر الانظمة على المصالح الأميركية وحلفائها، بالتالي سارعت الولايات الأمريكية عام 2003 لغزو العراق والعمل على تدمير كل أسس الدولة العراقية حتى أن «كولن باول» وزير الخارجية الأميركي السابق أكد أن احتلال العراق سيتيح لأميركا فرصة إعادة ترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها، فضلاً عن ذلك إنهاء المُهدد الأساس لإسرائيل في المنطقة، بالتالي قد حققت أميركا سيطرة استراتيجية من المحيط الأطلسي إلى آسيا الوسطى.
اليوم أميركا تعمل على الاستراتيجيات ذاتها، التي تخشى من صعود قوة تلعب دورا في تغيير شكل النظام، سواء كانت هذه القوة إقليمية أو دولية، فبحسب استراتيجية الحلقات أو الدوائر التي اتبعتها في تقسيم العالم على أساسها، لا تزال سارية المفعول، لكن مع تغيير في الادوات والإجراءات
وحتى السلوكيات، فبالرغم من وجود هذه القوى على الساحة لكنها (أميركا)، تحاول أن تفرض ارادتها عليها، سواء بالضغط على مناطق نفذها الاستراتيجي، أو من خلال فرض العقوبات التي تعمل على محاصرتها داخلياً وخارجياً، سواء
كانت الصين أو روسيا وإيران وحتى حليفتها تركيا، من حيث الضغط في فتح قضايا حيوية وخطيرة تمس أمنها وسيادتها، بالمقابل هي تعلم أن عالم اليوم مختلف في رسم صور التنافس عن عوالم
تصادمت بها القوى، وتنافست من أجل أن تكون ضمن دائرة القوى المؤثرة، المتنافسون اليوم مؤثرةن كلٌ وفق فعاليته في جانب من الجوانب السياسية
والاقتصادية والعسكرية، وفق تخصص عالمي يلعب دورا في خلق تكتلات جديدة تعمل وفق صياغات أمنية جديدة تتحمل أعباء ذلك التنافس الخطير، الذي يدور بين إثبات الوجود من قبل القوى القاعدة، وبين قوة عظمى تحاول أن تثبت أنها لا تزال قادرة على رسم ملامح العالم بكل مراحله وتغييراته.