الشعر عند وردزورث بين تلقائيَّة التدفق وقصديّة الإنشاء

ثقافة 2023/06/07
...

 أحمد الشطري

تتعدد وتختلف الرؤى في تحديد الأسباب أو الكيفيات التي تساهم في صيرورة أو ولادة القصيدة أو العمل الإبداعي، وقد يعزى 

منشأ هذه الاختلافات إلى ما يحيط بممكنات تلك الولادة وإلى رؤية وفلسفة المنظرين.ففي الفلسفة اليونانية نجد أن ثمة وعياً بالدور الذي تقوم به عملية التخيل في تشكيل النص الشعري بصورة خاصة والعمل الفني بصورة عامة، رغم ما يظهر من اختلافات في رؤية الفلاسفة لأهمية الخيال ومنشأه.

في حين كان الشعراء العرب يرون أن الشعر هو نتاج وحي الشياطين أو الجن، حتى أنهم اخترعوا واديا لسكن تلك الشياطين أسموه (وادي عبقر)، وربما بقيت آثار هذه الرؤية حتى العصور المتأخرة رغم نضوج الفكر التنظيري للشعر والأدب، وقد بلغ بهم الأمر أن اخترعوا لشياطينهم أسماء يدعونها بها، فالأعشى – مثلا- اخترع لشيطانه اسم مِسْحَل، وفق ما ورد ذكره في شعره إذ يقول:

وما كنت قوّالاً ولكنْ حسبتُني.. 

إذا مِسْحَلٌ يُسْدي ليَ القولَ أنطقُ

شريكان في ما بيننا من هوادةٍ.. 

صفيان إنسيٌّ وجنٌّ موفقُ

ومن طرائف ما يروى في هذا الشأن:» أن رجلاً أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعراً فانظره، قال: أنشد، فقال: 

وَمِنْهُم عمرٌو المَحْمُودُ نائِلُهُ.. 

كأنَّما رَأْسُهُ طِينُ الخَواتيمِ

 فضحك الفرزدق ثم قال: يا ابن أخي! إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت.»

ومع تطور النقد الأدبي وتلاقح الفكر والفلسفة العربية مع الفلسفة اليونانية، أصبح ثمة وعي بدور المخيلة المبدعة في تكوين النص الشعري على الأقل في الجانب التنظيري، ولكن رواسب فكرة إيحاء الجن بقيت عالقة في ذهن الشعراء وتعبيراتهم، وقد تكون الإشارة إليها ليس من باب الاعتقاد بتلك الرؤية وإنما هي تعبير مجازي يتماهى مع الموروث الاعتقادي وخاصة في العصور المتأخرة.

بيد أن موضوعة الكيفية التي تولد عبرها القصيدة بقيت مثار خلاف واختلاف في الآراء، فمنهم من يرى أن القصيدة هي عبارة عن تداع لأفكار ومشاعر كامنة في عمق الشاعر، بينما يرى آخرون أن القصيدة نتاج فعل قصدي خاضع لتخطيط مسبق يهدف إلى نقل فكر معين من أجل غاية محددة.وعلى الرغم من المسافة الشاسعة الفاصلة بين الرأيين والتناقض الحاد بينهما إلا أنهما يبدوان في العديد من التجارب الشعرية حقيقة، قد تعززها العديد من الشواهد الثابتة قديما وحديثا.

وإذا كانت القصائد الوجدانية أو العاطفية تميل في الغالب إلى الرؤية الأولى، فإن قصائد المديح والحكمة والهجاء تنطوي على فعل قصدي يهدف إلى غاية مخطط لها.

ورغم ذلك فإن ثمة نقطة التقاء لا يمكن تجاوزها بين هذين الرأيين وهي أن القصيدة سواء كانت ذات فعل قصدي أم تداع عاطفي تبقى نتاج منبع العمق التخيلي الذي يجمع بين الوعي واللاوعي في آن واحد، وفي نقطة الالتقاء هذه يكمن التكامل الإبداعي، ومع ذلك فقد يختلفان في رجوح كفة على أخرى بين نص و آخر.

ووفقا لهذه الرؤية يمكن لنا أن نقرأ أو نبرر التناقض بين مقولة وردزورث بأن الشعر هو: «التدفق التلقائي للمشاعر القوية» ومقولته الأخرى بأنه: «عاطفة تُجمع في هدوء».

إن هذا التناقض الواضح بين المقولتين قد لا يكون إلا تعبيرا عن الغموض الذي يغلف صيرورة النص الشعري، والذي يبقى البحث فيه وعنه هاجسا دائما لم ولن يتوقف سواء في جانبه النفسي أم الفلسفي أم الأدبي.

ولعل غموض الصيرورة هذا لا ينحصر في الشعر - وإن كان الشعر هو أكثر تجلياته وضوحا- وإنما يشمل جميع الجوانب الإبداعية، وهو ما ساهم في ظهور تيارات ومدارس متعددة، والتي كان للفلسفة بتنظيراتها  التأملية، وعلم النفس بتحليلاته مساهمة فاعلة في تنمية وتعدد تلك المذاهب والمدارس، والتي أثمرت عن تلك الآراء المختلفة.

فعلى صعيد الرؤية الفلسفية نجد أن هيجل- على سبيل المثال- كان يرى» أن الفن هو نتاج الالهام والعبقرية وإنه ينبع من الروح»، بينما يرى الفيلسوف الظاهراتي باشلر» أن ما يعنينا من التأملات الشاردة هي التأملات الشعرية التي يضعها الشعر على المنحدر المطلوب والذي يتبعه وعيّ آخذ بالنمو» وكما هو واضح فإن باشلر يخضع التدفق الشعري إلى هيمنة الوعي. بينما نجد أن تيار الوعي الذي كان والتر جيمس W. James) ) أول من وضع مصطلحه في كتابه (مبادئ علم النفس عام 1890م)، يرتكز على تقنية التداعي الحر للأفكار، وهو ما يمكن أن يلتقي مع مقولة وردزورث (التدفق التلقائي للمشاعر). بينما يرى فرويد في تحليلاته النفسية للنصوص الأدبية أن “الفنان كالعصابي، ينسحب من الواقع إلى دنيا الخيال؛ ولكنه على خلاف العصابي، يعرف كيف يقفل

تتعدد وتختلف الرؤى في تحديد الأسباب أو الكيفيات التي تساهم في صيرورة أو ولادة القصيدة أو العمل الإبداعي، وقد يعزى 

منشأ هذه الاختلافات إلى ما يحيط بممكنات تلك الولادة وإلى رؤية وفلسفة المنظرين.ففي الفلسفة اليونانية نجد أن ثمة وعياً بالدور الذي تقوم به عملية التخيل في تشكيل النص الشعري بصورة خاصة والعمل الفني بصورة عامة، رغم ما يظهر من اختلافات في رؤية الفلاسفة لأهمية الخيال ومنشأه.

منه راجعاً ليجد مقاماً راسخاً في الواقع. ومنتجاته هي، إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام”.

ولأن وردزورث يعتبر من أحد أنصار الرومانتيكية والتي سعت إلى الثورة على العقلانية وجعل المشاعر ميدانا لإبداعهم، يمكننا أن نؤسس لنقطة التقاء بين المقولتين، إذ نرى أن وردزورث لا يقصد بالهدوء فرض الهيمنة العقلية على العمل الإبداعي وإنما خلق الأجواء الهادئة التي تتيح للعاطفة أو المشاعر بالتدفق، وهو ما يمكن أن توفره حالة التفاعل مع الطبيعة ومفرداتها.ومع تبريرنا هذا للناقض الظاهري لمقولتي ودزورث إلا أننا نؤكد أن صيرورة العملية الإبداعية تبقى عصية عن التحديد، ولكن لا نستبعد ملامستها من كل الآراء

مهما اختلفت.