علي العقباني
أدب الرسائل الذي يعدّ لوناً أدبياً مميزاً وفريداً يجذب القرَّاء في كلِّ عصر، وكلنا يعلم ما تركته رسائل جبران إلى مي زيادة ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان من شغف وفضول لدى القرَّاء والمهتمين بهذا النوع الأدبي المهمّ الذي يُطلعنا على جوانب خفيَّة وخاصَّة من شخصيَّة الكاتب وحياته، وكأننا هنا نتلصص على حياة الكاتب ويومياته، وحين يتعلق الأمر بإرنست هيمنغواي الكاتب الأميركي الشهير صاحب الرواية الأكثر شهرة في العالم “الشيخ والبحر” والمتحصل على جائزة نوبل للآداب، سيكون الانجذاب والإثارة والفضول أكبر وأكبر.
في هذه الرسائل يقترب القارئ من همنغواي الحفيد، الابن والأخ، الزوج والأب. همنغواي الصحفي، سائق عربة الإسعاف في الصليب الأحمر الأميركي في نهاية الحرب العالميَّة الأولى في إيطاليا، الكاتب المبتدئ، المولع بصيد الأسماك والطيور والحيوانات، المولع بالملاكمة ومصارعة الثيران وعاشق القطط. همنغواي دائم التنقل، والصديق الذي يتنوع أصدقاؤه بقدر تنوع اهتماماته وتنوع أماكن ترحاله، من أميركا إلى أوروبا وأفريقيا، همنغواي الجندي المحارب الذي لا يهاب الموت، والباريسي المرفه أحد ممثلي الجيل الضائع. همنغواي الكاتب الكبير الذي ذاق طعم الشهرة والنجاح الباهر وواصل الطريق حتى جائزة نوبل للأدب… كل هذه الوجوه ووجوه أخرى لهمنغواي تظهر واضحة من خلال رسائله.
في هذه الرسائل نتعرّف عن كثب إلى الروائي الأميركي وحياته المُبهمة، بفوضاها وألغازها وتفاصيلها الدقيقة والدسمة. ذلك أنَّ الرسائل الصادرة في مجلّدين اعتمد المترجم عبد الكريم في نقلهما إلى العربيَّة على نسخة حقّقها الروائي والناقد الأميركي كاروس بيكر، وصدرت سنة 1981؛ بمثابة حديقة خلفيَّة لحياة مؤلّف “موت في الظهيرة” ورواياته. كما أنّها سيرة ذاتيَّة حيَّة لتجربته القاسية في الحبّ والعيش والكتابة.
إرنست همنغواي، وفي رسالة كتبها قبل وفاته بثلاث سنوات، كان قد طلب من القائمين على تنفيذ وصيته ألّا “تنشر هذه الرسائل التي كتبتها في حياتي. وبناءً عليه، أطلب منكم عدم نشر أيّ من هذه الرسائل، أو الموافقة على نشرها”. ولكن وصيته هذه لم تجد أذاناً مصغية، تبعًا لشدّة أهمّيَّة رسائله الـ581 المكتوبة إلى أفراد عائلته وأصدقائه وزوجاته. بالإضافة إلى كبار كتّاب عصره، أمثال جروترد شتاين، وسكوت فيتزجيرالد، وجون دوس باسوس. ناهيك عن عددٍ من الشّعراء، كأرشيبالد مالكيش، وإزرا باوند. ومجموعة واسعة كذلك من الصحافيين والمترجمين وناشرين ومُحرِّري دور النّشر..
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على رحيل همنغواي... بخاصة بعد أن مرت سنوات خيل فيها للبعض أنَّ النسيان قد طوى اسم وذكر ومؤلفات صاحب “الشيخ والبحر” أو كما يرغب البعض ترجمتها “العجوز والبحر”، و”لمن تقرع الأجراس”، وغيرها، ها هو همنغواي يقفز إلى الواجهة حيوياً أكثر من أي وقت مضى... وها هي كتبه تتصدر كبرى مكتبات العالم وتباع أكثر من كتب أي مؤلف أميركي آخر...
فعندما أطلق إرنست همنغواي على نفسه تلك الرصاصة الشهيرة في أحد أيام العام 1961 واضعاً حداً مفاجئاً لحياة عمرت بالكتابة والمغامرات والإخفاق والنجاح، راهن كثيرون على أنَّ هذا الكاتب لن يكون واحداً من الذين تعيش ذكراهم طويلاً.
ويرى الكثير من النقاد أنَّ همنغواي لا يميلُ في معظم كتاباته إلى الزخرفات البديعيَّة والالتواءات اللفظيَّة بقدر ما يركزُ على اختيار الجملة الخبريَّة البسيطة لينطلق منها السردُ مُنساباً. وفي السياق نفسه يشيرُ صاحب “يملكون ولا يملكون” أنّه منذ اللحظة التي يتوقف فيها عن الكتابة لا يفكرُ في الموضوع إلى أن يستأنف مشروعه في وقت لاحق، مُنصرفاً إلى القراءة.
أحصت دار النشر التي نشرت رسائله نحو ستمئة رسالة، تشغل أكثر من ألف صفحة، هي المحصلة الغنيَّة للكتاب الذي صدر للمرة الأولى بعد سنوات طويلة من انتحار مؤلفه، أولاً بالإنكليزيَّة ثم بلغات أوروبيَّة عدة بينها الفرنسيَّة. إنه كتاب يضم مراسلات إرنست همنغواي... لكنَّ الرسائل التي يضمها الكتاب ليست سوى جزء مختار بعناية من بين ألوف أخرى من الرسائل كان همنغواي يصر دائماً على ألا تنشر، لا خلال حياته، ولا بعد موته...
منذ ولادة همنغواي في أُول بارك بولاية إلينوي (21 تموز/ يوليو 1899)، حتى انتحاره في كيتشوم بولاية أوهايو (2 تموز/ يوليو 1961)، وكيف شارك باكراً في الحرب العالميَّة الأولى وجرح في إيطاليا، ثم عاد إلى الولايات المتحدة حيث كان زواجه الأول من هادلي ريتشاردسون التي عاد معها إلى إيطاليا وأوروبا عموماً، واستقر لفترة في باريس، حيث كان كتاباه الأولان، بعد صداقته مع جرترود شتاين وعازرا باوند. حتى كان إصدار كتابه الأول “ولا تزال الشمس تشرق” (1926) وتلاه “وداعاً للسلاح” (1929). وإذا كان معظم الباحثين يعتبرون هذين الكتابين أفضل ما كتبه همنغواي، فإنَّ هذا لم يمنع الكاتب من مواصلة الكتابة حتى نهاية حياته... ولم يمنعه من أن تكون كتبه على الدوام شرائح من حياة عاشها ممزوجة بشرائح من حياة يتمنى عيشها.