التكنولوجيا الفائقة وتمثّلات الماضي والحاضر
رعد أطياف
ربما لم تعد المقارنة أمراً معقولًا بين لحظتنا المعاصرة وما قبلها؛ بين ما قبل التكنولوجيا الفائقة وما بعدها. حيث أصبح العالم «قرية صغيرة»، لا بل حتى هذا التوصيف لم يعد كافياً، بل يمكن القول أنه أصبح غرفة دردشة صغيرة، أو قاعدة بيانات هائلة مُكثفة في وحدات فائقة الصغر، يمكنك أن تستخدمها متى شئت. ولم تعد المعلومة حكرًا على نخبة معينة بقدر ما أصبحت، بعمومها، ملكاً مشاعا بين المستخدمين؛ يمكنك أن تسأل والذكاء الصناعي يجيب بكل يسر وسهولة وسخاء! لم يعد ذلك الكتاب الورقي «المملّ» يتحكم بسير المعلومات، ثمّة فضاء معلوماتي جبّار آخذ في الازدياد، يلقي علينا كنوزه المعلوماتية دون قيد أو شرط، ما عليك سوى نقرة زر أو صياغة سؤال.
ربما كان يحتاج إلى تصفح عشرات الكتب الورقية ومزيد من الجهد والوقت لاكتساب المعلومة المطلوبة. من هنا نسمع، بين الحين والآخر، تندّر بعض «المثقفين» وتهكّمهم حول جيل «النت»، فالحصول على المعلومة من هذا العالم الرقمي الهائل يُعَدُّ رجيماً من قبل بعض هؤلاء. ولكي تكون قارئاً «صالحاً» و»مخلصاً» ينبغي عليك أن تستنشق عطر الكتاب الورقي. ومن المرجّح أن الجيل الجديد سيستقبل هذه الـ»ينبغي» بمزيد من التهكّم المضاد، وما القراءة الورقية سوى «طقس روحي» قد يحلو لبعض الشباب الرجوع إليها بين الحين والآخر كذكرى جميلة وعذبة.أغلب الظن أننا آخر الأجيال التي ستكون لها صلة مباشرة بهذه «الطقوس الروحية» و بهذا الواقع الفعلي، ذلك أن الأجيال الجديدة تفقد الصلة بهذا الواقع بالتدريج، وأصبح الواقع الافتراضي هو «شخصيتها المفهومية» التي تتكلم وتفكر، وتكره وتحب من خلالها. هذا الواقع الافتراضي الذي فرض نفسه على مجمل توجهات الجيل الجديد وأصبح أفقها الذي تستشرف منه مستقبلها القادم. ربما لم يعد الواقع الفعلي يشكل جدوى معينة لهذه الأجيال إذا ما قورن بعالمها الأثير: عالم الافتراض الفائق. أنهم يخلقون عالمهم الخاص؛ تصوراتهم، وآمالهم، وخياراتهم، وحرياتهم، وطرق تفكيرهم، ولا أحد يمكنه التنبؤ بحدود هذه العوالم، ذلك أن الحدود والإمكانات تبقى رهنًا بهذه الأجيال الجديدة وبقدرتها حول إضاءة المناطق المُعتّمَة التي لم ترِ النور بعد. هذا العالم ترك أجيالاً وراءه تندب حظها العاثر، أجيال تقابل الجيل الجديد بالتذمر والازدراء والنبرة النقدية اللاذعة. لقد اعتدنا على هذه الحقيقة التاريخية: الجيل السابق يزدري الجيل اللاحق ويتعامل معه بمنطق الأستذة والتوبيخ. أما الجيل اللاحق فمزيد من المقاومة المسكونة بروح التمرّد ضد سلطة «الآباء» (لم استطع تنظيم الأوقات المناسبة لابني المراهق بخصوص التعامل مع الجهاز الذكي وباءت كل محاولاتي بالفشل). إن الجيل السابق يعوض حالة التوهان التي يتعرض لها وهو يصطدم بعالم الجيل الجديد ومواضيعه الصادمة بشيء من الذكرى؛ ذكرى «الماضي الجميل»، و»الآداب الجميلة»، و»الرموز الجميلة». إن ردود الفعل التي يتخذها الجيل السابق حول صدمة التكنولوجيا الفائقة، التي أصبحت بمتناول الجيل الجديد ويتعامل معها بمهارة فائقة، تأتي على شكل عملية تقهقر تجعل كل الماضي يندرج في دائرة الحنين والتوق المشبع بالمثالية. بالطبع ليست التكنولوجيا هي حكر على الجيل الجديد، كما يبدو من هذه المقالة لأول وهلة، وإنما لا ننكر مساحة الاستحواذ الهائلة التي يستولي عليها، والإقبال الكثيف التي تغطيها الفئات الشابّة مقارنة بغيرهم. لكن ما أخشاه علينا، نحن الكهول فصاعداً، أن نسترد النزوع السلطوي كجزء من الماضي الجميل! وأن نقابل هذا الخسران بنزوعات ماضوية بوصفها «أفضل العوالم الممكنة»، وهذه الأخيرة تعني الحكم بالإعدام على لحظتنا المعاصرة وحرماننا من التزوّد منها، ونكتفي بدور الأستذة والنقد المشبع بالسلطوية كتعويض عن استلام الأجيال الشابة لزمام الأمور. لكن هذه المرة لا تحدث الأمور بانقلاب عسكري، وإنما ستكون العوالم الفائقة هي الحد الفاصل بين ما كنّاه وما سنكونه إن شئنا ذلك.