رامية منصور
«لربما يتوجّب عليك أن تغلق الأبواب، الأحلام، في حياتك.. ليس الاعتزاز أو الغطرسة والكبرياء، ولكن لأنها لم تعد تقودك إلى أي مكان». باولو كويلو.
كتل البرونز، كأن الواحدة منها “بيت البلوك” الذي يضم العديد من البيوت أو العائلات في مجتمع يدعي التماسك والبنية الأبوية، لكنك تشعر بهذه الكتلة وهي تضطرب في انتصابها، وكأن خط بقائها الشاقولي يوشك أن ينفلت عن قاعدتها فتنكفئ على وجه من وجوهها، بيوتها، وتتحطّم برغم صلابتها الظاهرة التي تتناقض مع حشوتها الفارغة من أي صلابة
أن تشعر أنك غير مستقر على شيء يعادل أن تشعر أنك من دون جذور تمتد في أرض ما، تغذي فيك هويّة انتمائية التكوين كانت أم ثقافية لكنها في النهاية
هويّة.
أنت لا تعرف من أنت، رغم أنك قد وجدت هذه الـ (أنت) بيد أنها ليست (أنت) الحقيقية.
ولهذا تجاهلت أهميتها وركزت في هدف رئيسي هو أن تجد طريقًا للعودة إلى نفسك، ولحظة تجدها تكتشف أنها لا تمثل جوهر الحقيقة بل هي تداعيات لها.
لذا ستتردد على مسامعك مسميات مثل «أحلام الانتماء» و»رسم خريطة لشتات العالم».
ثمَّ ثقافات تعصف بك ووجوه لا تقرب لك ولو بقرابة بعيدة أو قديم جوار إنها الغربة كما يراها ويشعر بها المثقف أو الفنان قبل جانبه الإنساني.
حالة من الفوضى والضياع وعدم السماح لك بمد أي جذور حقيقيّة في أي بقعة من بقاعها حتى وإن شبّه لك ذلك.
الفن هو خيار قاتل للهروب لأنه يغريك في كل مرة بسراب لا تصله وتظل تكافح في صحراء شتاتك، وأن تضعه على سكة معنويّة توصل للوطن يشبه السير في طريق مزدحم بوطنيين على هيئة نبات الصبار لن يزدك السير فيها إلا ألمًا ويأسًا وكفرًا بالوطن، على رأي حكيم متقاعد.
تتحرّك أعمال ريم داخل حدود المفاهيم المتحيّرة للهوية وإسقاطاتها على الركائز الاجتماعية التي تتفاعل في عملية تعود لتسطيح ذات فكرة الهوية التي تسعى إليها فالمنازل ذات الأشكال والتراتبية العشوائية التي تشابه تمامًا الطريقة التي تأسّس وفقها شكل المدن في بلادنا بدءًا بالعاصمة، وهذه العشوائية جاءت مماثلة لخليط القيم والاخلاقيات والأعراف غير المتناسقة وغير المتسقة مع مدنية المدينة فلم تصنع هوية أو وطنًا متزنًا، بل صورة هي غاية في القلق وبنية هجينة حتى النخاع.
المنزل بالنسبة لريم ولأي إنسان يبدأ من داخله، إنه إحساس قبل أن يكون شيئًا ملموسًا حتى لو امتلكت ألف منزل لن تمنحك الشعور بالانتماء، ما لم يتكون قبلها في داخلك وستبقى معلقًا بين الانتماء وعدم الانتماء وهي حالة مؤذية في الصميم تورثها أجيال الغربة السابقة لأجيالها اللاحقة كأنها نوع من الهويات الممسوخة التي لن تحميك من الضياع كما لم يفعل البيت المبني على رمال الغربة، وستبقى تشعر بالتهديد الدائم وبالقلق الحاضر معك.
“بالنسبة لي” تقول ريم، “البلوك هاوس تشبه كثيراً هوياتنا، وتحديداً هويات الشتات القوية والدفاعية بسبب ألم الفقدان أو الخروج من بيوتنا.
يستمر جوهرهم المجوف في الحديث عن قصة الفراغ بداخله» ولعله من قبيل المفارقة السوداء لا المصادفة أن نجد العديد من منحوتات ريم تشبه بشكل كبير الزقورة المتآكلة، أو ما يعتبرها البعض بقايا برج بابل العظيم الذي جسّد يومًا طريق صعود الرافديني إلى السماء.. أهو دافع داخلي أو تأثر انطبع في لا وعيها؟!
إن اختيارها للبرونز تارة وللخزف تارة أخرى واعتمادها تقنيات الخدوش والنحت عبر ضغط القوالب والأشكال والثقوب غير المنتظمة وغير المتشابهة والأبواب غير المتمايزة عن الشبابيك والمختفية في أغلب الأحيان لا يمكن أن يكون ذلك خيارًا فنيًّا مقصودًا وإنما اختاره اللاوعي لدى الفنانة ليعبر عن حنين لهياكل أشبه ما تكون لسجون تقل فيها الأبواب وتكثر الشبابيك التي لا يمكن الخروج منها، سجون هرب منها جيل بشق الأنفس، ويتمنى العودة إليها جيل جديد لم يعش داخل جحيمها
يوما.
في نهاية المطاف ستصل لحالة تشبه التجلي، وكأنه التجلي الأخير الذي يختصر كل أشواط بحثك في هذا العبث واللامعنى.. هي خلاصة تقول لك بعبارة صريحة أن الوطن هو أكبر مسلّة وأعمق خراب والسكنى فيه هي السكنى في مسلّات الخراب، التي لم تعد تصلح لشي+ء سوى أن تعربد في صمتها رياح الخيبات والأرواح الهائمة بلا هدف ولا مصير! .