ظلٌ يسقط من السماء

ثقافة 2023/06/10
...

 مهند الخيكاني
في البداية لم يكن سلام يعي لماذا على والديه أن يمزقا العائلة مثل كل مرة، ثم يلجآن إليه ويتخذان منه عصارة صمغ تجمع شظايا ما تبقى من صورة العائلة، لاحقا حاول أن يفهم لماذا يميل إلى تمزيق دفتر الرسم، كلما اشترت له جارتهم المعلمة الحريصة دفترا، ينشغل به عن حلبة المصارعة الشهيرة في الزقاق، بين أمه المتذمرة وأبيه السكير.

تطورت تلك الظاهرة المنبوذة لديه في تمزيق الأشياء إلى هواية، تكيّف معها وجعلها راسخةً في حياته أكثر بعدما جرّب تمزيق حقيبة المدرسة، وثياب أخته المنزلية، وأحذيته القديمة المركونة تحت السلّم، إلى أن تكثّف لديه هذا السلوك وتجمهرت رغائبه كلها في تمزيق الطيور حيث وجد فيها ضالته، في الوقت الذي كان يشتري ويربي عشاقُ الطيور أنواعًا وأشكالا منها للتمتع بمنظرها وهي تنحت السماء بلوحات مبتكرة تنمو للحظات وتنحسر في لحظات أُخر لتعيد ترتيب نفسها في منحوتة جديدة، وأحيانا يخوض مربّي الطيور من خلالها تحديات ومراهنات هي أقرب لمبارزة، حلبتها السماء، والانتصار فيها هو الوصول إلى الهدف بأسرع وقت من مسافات بعيدة.
وذات صباح مشمسٍ يمشي على غيمةٍ هنا وغيمةٍ هناك، وبينما سلام جالس في حديقة البيت الصغيرة، سمع صوتًا قادمًا من الأعلى، أعقبه سقوط جسمٍ بلون الظل أو هو أقرب إلى ذلك، هذا ما فرضته أشعة الشمس على عينيّه، لم يكن سقوطه لافتًا جدا، إلا أنه كان أقرب إلى هبوطٍ سريع منه إلى السقوط، ويمكن قراءة هذا المشهد البديهي، للتمييز بين إذا ما كان هبوطًا أو سقوطًا، من خلال وقوف الطائر على ساقيه لا على جسده لحظة وصوله إلى الأرض، وليس كما يحدث لطائر مريض تهاوى من السماء، وما إن وقعت عينا سلام على ذلك الطائر، من اللحظة التي استقر بها بين يديه بألفةٍ مبالغ بها لا تحصل بهذا الشكل الفجائي عادةً حتى فُتِنَ، وضخّم ذلك الافتتان أنه كان طائرا ساحر اللون يبهج العينين، له جناحان يطرزهما اللون الأبيض ويلطخه الأسود مثلما لو أنه سقط على ريشه بالمصادفة، طائرٌ لم تر عيناه الخبيرتان مثله ولم تستطيعا معرفة إلى أي الفصائل الشائعة لدى الباعة والخبراء ينتمي، وعندما يحرّك جناحيه متظاهرًا بالطيران أو حين ينقر يديه ليأكل طعامه، فإنه يوقع سلام بسحر حركته المتسقة الرهيفة، ويبعث فيه الثقة كلما مرر جسده صاحب الريش الحريريّ الملمس الدافئ على باطنيّ كفّهِ، لكنّه في غمرة انهماره بهذا المخلوق وعالمه، ازداد تعلقه بالطائر وزاد معها السوء في حالته النفسيّة، وذلك لوقوعه في فخ الاختيار بين رغبته في التمزيق، تمزيق الطيور وقطع رؤوسها كما اعتاد أن يفعل في أيامه السابقة وبين اكتشافه لصورة نادرة من صور الحب لم يرها من قبل رفقة والديه أو أقربائه ومن حوله من الأصدقاء، كما ولم يجرب تلك العلاقة الغامضة بين الانسان وبقية المخلوقات، إنما كان ممتعظًا منها وحاسدًا لها أغلب الوقت.
كان الطائر بمثابة عالم جديد غمر سلام بالعاطفة الإنسانية المتأججة التي جعلت روحه رطبةً وقابلة للتمدد والازدهار، ولشدة سعادته لم يحكِ لأحد عن طائره العزيز، الا أن الناس لاحظت ما طرأ على سلوكه من نعومة ورقة غير معهودة لديه في السابق، ووافق ذلك انعدام الشكوى منذ شهر تقريبا، حيث لم يبلّغ أحدًا عن فقدان طير من الطيور، ولهذا اُستثير فضول من يعرفونه على طبيعته الأولى، وقرّروا سؤال صاحبهم عن سرّ هذه الروح المشرقة التي لم يعتادوا رؤيتها عليه.
حاول بدوره تجاهلهم لحماية سرّه، لكنهم ألّحوا عليه وأغروه بإلحاحهم حين أخذوا يزخرفونه بالمديح ، فانصاع لرغبتهم تدريجيا ، طبعا كان سلام كلما أمسك طائرا قطع رأسه ورماه في الباحة الخلفية المهملة للبيت، حيث يمكن للناظر من الاعلى من سطح البيت أو الأسطح المجاورة، مشاهدة مجزرة من الريش والبقع السود تملأ المكان، وعدد لا يحصى من القطط يترقب هذا البوفيه المفتوح والمجاني، ولذا ليس غريبا هذا الفضول المتنامي لدى الناس العارفين بأفعال سلام وخشيتهم من جنونه، فهو لا يخشى أحدا ولم يخضع من قبل لأي تهديد بالعقوبة القانونية أو العشائرية كما يحصل عادة لأجل طيرٍ أو
دجاجة.
وأخذ يحكي لهم قصة الطائر الذي ظهر من الفراغ ليقع بين يديه، وكيف أنه لم يبذل مجهودا لإمساكه كما يفعل في كل مرة يكيد لأحد الطيور، ولم يتكبد عناء ملاحقته والالتصاق بجدران السطح كي يفاجئه، إنما جاءه مثل هدية سقطت عليه من السماء كما يقال، وشرح لهم شرحًا مفصّلا فيه شيء من التشريح، محاولا تبرير عجزه في اكتشاف إلى أي نوع أو صنف ينتمي طائره العبقري، الا أن القريبين منه وبعض الخبراء لم يصدقوه، وضحكوا منه، وبعضهم قال: فقط في خيالك يوجد مثل هذا الطائر.
وخصوصًا عندما أفرط في مديح الطائر وخصاله الفانتازيا حين أخبرهم، إن طائره يغيّر ألوانه بين وقت وآخر، فإذا رغب بالطيران يتلون ريشه بالبياض الناصع وإذا شاء الاسترخاء يصبح أزرق، وإذا جاع اكتسى بالأصفر الذهبي الموشّى بريشات داكنة، إذ كل ريشة بلون، وإذا نام فإن ستائر صغيرة من الليل تحيط به
وتحتضنه.
فلم يصدقه أحد، ونعتوه بالمجنون وحاولوا تجنبّه، وهو ردُّ الفعل الطبيعي، ولذا كان أفضل حلٍّ للنزاع أن يُجاء بالطائر إليهم كي يحكموا، وقد اتفقوا على اللقاء في بيت أحد المطيرچية المعروفين، وهي عائلة توارثت حبَّ الطيور وشغفها بعالم الأجنحة وتجارتهم بها من الأجداد إلى الأبناء فالأحفاد، وفي حدود الساعة التاسعة ليلا، جاء سلام ومعه قفص مغطّى بقطعة قماش مزركشة هي في الأصل تعود لدشداشة نسائية برتقالية اللون ومنقوشة بنقوش تجريدية، منحت شكل القفص حضورا لافتًا وظريفًا.
وضع سلام القفص في منتصف الطاولة أمام حفنة الفضوليّين الخبراء بعالم الطيور، فقالوا له:
هيا يا ولد أرِنا سرّكَ.
في وقتها كان الترقبُ قد نخرَ الحاضرين نخرًا، خشية أن يَصدُق كلامه، ويمتلك سلام فعلا مثل هذا الطائر الأقرب إلى المخلوقات الأسطوريّة، فهو من وجهة نظرهم لا يستحق مثل هذه الهدية.. لم ينتظر سلام أية إشارة أو كلمة، فقد ملأه الحماس وثارت شهوةُ الكشف عن السرّ لديه إلى أقصاها، دبّت في ذراعيه وانسلّت إلى أصابعه، حتى رفع سلام قطعة القماش عن القفص من أحد أطراف الدانتيل المتدليّ، فاصطدمت أعيّن الحاضرين جميعها بفراغٍ محض ٍ يملأ القفص، إذ لم يكن هناك طائرٌ ولا حتى ريشة تدلّ عليه أو على غيره، فثار غضبهم واستنكروا عليه فعلته الشائنة هذه، وحاول بعضهم التهجم عليه بالرغم من خوفهم منه وشعروا بأنهم مجرد أطفال في نظره، فصاح بهم مرات عدة حتى هدؤوا قليلا، ثم طلب إليهم أن يصغوا اليه فقط، وحينها  أخبرهم:
يا جماعة يا جماعة، أنا لم أكذب بأية كلمة قلتها، أقسم لكم، لكنّي وكلمة الحق تقال لم
أخبركم عن شيءٍ هامٍّ احتفظت به لنفسي وها أنا أنويّ مشاركته معكم لأول مرة، يا جماعة، طائري لا يغيّر ألوانه فقط، إنما بمقدوره الاختفاء أيضا!