هل يعيشُ العربُ حماسةَ الشعر وخياله ومجازه؟

ثقافة 2023/06/11
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

تنشغل المجتمعات العربيَّة بالشعر انشغالا أسطوريَّاً، حتى أن بعضها يستثمر طاقات ذلك الشعر في حياته اليوميَّة، فتتسرب سعة الخيال وبعد المجاز والتفاهم عبر رمزيات التلميح والاستعارة إلى تعاملاتهم الاجتماعية. ولنا في صدور التاريخ وعيونه، ما ينفتح على أدلة من الحوادث التي لا حصر لها، تأخذنا إلى الإيمان بامتزاج الشعر بمضامين الحياة العربية، حتى أن لغتنا أصبحت تتحمل مقاصد خارج قوالبها المعنوية أحيانا، لأن التلميح الذي جاء من انشغال العربي بالشعر، طغى عليها واستبد بطاقة متلقيها.

نحن هنا أمام تساؤل مهم، عن مدى انتفاع المجتمعات العربية ومستويات الضرر الذي يتسرب إلى مفاهيمها عبر تسيد عناصر الشعر في الحياة. 

تساؤل عن حضور الخيال في التعامل اليومي، ومقدار نفعه وضرره، عن حضور الاستعارة والمجاز في الفهم والتلقي واللغة، تساؤل عن أثر الشعر في صناعة جماليات الحياة، وثقله في شيوع الحماسة، التي قد تكون سبباً في خسارة التأمل والطمأنينة، سبباً في اشتعال الحروب أيضا. 

تساؤل عن قدرة الشعر في رواج الحكمة أو غيابها، قدرته على دفع المجتمع للعيش في الماضي، أو في فجائعيَّة الرثاء، والتوقف عن المستقبل في ظل الحزن على الماضي.

من ذلك كله انطلقتُ لأتساءل في حضرة نخبة متميزة من مثقفينا العرب: ما طبيعة انتشار الشعر العربي الفصيح والدارج العامي في مجتمع بلادك؟ بِمَ تقيّمُ مستوى استعمال أفراد المجتمع للشعر في يومياتهم وأشغالهم، كالزراعة والصيد، وفي مناسباتهم كالزواج والعزاء والاحتفالات العامة والخاصة؟

أيمتلك مجتمعُك خصوصيَّة شعريَّة، لا يتشابه بها مع مجتمع آخر؟ هل يمثل تلقي المجتمع لهذا الشعر، حاجة يومية أم مناسباتية، أم أن تلقيه له يعد أمراً ثانوياً؟ ما أثر الشعر في الحياة لديكم، وهل يفكر خاصةُ أو عامةُ المجتمع بطريقة شعرية، أو يستثمر طاقات الشعر أو آثاره في الحياة اليوميَّة. كيف ترى مستوى ما ينجز من شعر شعبي دارج، أو فصيح عربي في بلادك؟. 


تسيّدُ الشعر الفصيح في سوريا

الشاعر السوري هاني نديم، تحدث عن الشعر وأهميته ومستويات وجوده في المجتمع السوري، مشيراً إلى تسيّد الشعر الفصيح على المشهد السوري منذ عقود، ووجود حالات هائلة الجمال من المحكي أو العامي. إذ تشكلت في المجتمع خاصةً في السنوات الأخيرة، أسماء لامعة في الشعر المحكي لا سيما الزجل وفنونه.

وأضاف نديم قائلا: في سوريا، يتدخل فن العتابا في كل المناسبات، وإن لم يكن العتابا فبقية أنماط الشعر المحكي كالقرّادي والموشح والقصيد. فتراه في الأعراس والجنازات والحصاد وغيره.

أعتقد أنّ خصوصيَّة وجاذبيَّة الشعر السوري، هي في انتقائيته، فهو فن للصفوة والنخب في شكله الفصيح، لهذا ترى أن سوريا خلال تاريخها، قدمت أسماءً نوعيَّة غيّرت المشهد العربي، مثل القباني وأدونيس والماغوط وعدوان وغيرهم.

وعن تلقي المجتمع للشعر وما يمثله من حاجة يوميَّة أو مناسباتيَّة، قال نديم: ربما الشعر في قالبه الغنائي، هو حاجة يوميَّة ومناسباتيَّة معاً، أما الشعر بشكله الأول، فهو في أوساط معينة.

أما الحديث عن أثر الشعر في الحياة، وهل يفكر خاصة أو عامة المجتمع بطريقة شعريَّة، أو يستثمر طاقات الشعر أو آثاره في الحياة اليوميَّة، فيأخذني إلى الإجابة التالية: لا أثر يذكر للشعر في القاعدة العميقة للعامة، إلا أنَّ نجوم شعر سوريا، هم نجوم يعرفهم الجميع، مثل أدونيس ونزار والماغوط. وتستثمر آثارهم إلى اليوم تجاريا وشعبياً. أما بالعموم فالشعر يتوارى وراء الكثير من الضغوطات المعيشيَّة.

أعتقد أنَّ الشعر السوري اليوم، بشقيه العامي والفصيح، يشهد ازدهاراً هائلاً ويقدم أسماءً رائعة، عكس ما يذهب إليه الكثيرون.


الشعر العامي حفظ التراث التونسي 

الشاعرة التونسية سونيا فرجاني، ترى أن تونس لها رصيدها المحلي والوطني من الشعر العربي الفصيح والعامي، أو ما يسمى بالشعر الشعبي. مشيرة إلى أن مدوَّنة الشعر التونسي، ما دوّن منها، وما اعتمد على الرواية والحفظ، تدل على أن هذا الإرث كبير ومتنوع سواء في الأغراض أو الأوزان أو الأشكال.

وأضافت فرجاني موضحة: شعر البوادي أو الشعر العامي له مكانة عالية في التراث وحفظه، وله مكانته في الملتقيات والمناسبات والأعراس، تماما كما للقصيدة العربية الفصحى حضورها في التظاهرات الثقافيَّة، ولها تأثيرها عربيا وعالميا بتنوعها وتطورها السريع.

يقال تعرف حضارة الشعوب بعدد مثقفيها ومبدعيها وعلمائها، وفي تونس يتزايد عدد الشعراء، كما تتزايد المناسبات التي تحتفي بهم، وهذا دليل واضح على أن الشعر يحتل مكانة مهمة لدى الفئة المثقفة، وأؤكد على الفئة المثقفة وليس لدى الشعب.

وعن استعمال أفراد المجتمع للشعر في يومياتهم وأشغالهم قالت: عرف التونسيون الشعر الشعبي مع الهلاليين الذين توزعوا في البلاد، ونشروا عاداتهم وتقاليدهم بعد أن اندمجوا في بنية المجتمع والثقافة المحليَّة.

الشعر كان أهم ما جاء به بنو هلال لتونس، حسب المؤرخين والباحثين في الثقافة الشعبيَّة المحليَّة، لذلك كان منتشرا بشكل كبير في حياة البادية، واعتمده الناس في حكاياتهم اليوميَّة، عن الحب والحرب والجوع والفقد والأفراح واعتبرت تلك القصائد تراثا وما زالت. إذ من خلالها انتبه المؤرخون لأحداث وعادات وقصص مهمة في التاريخ التونسي، قبل الحرب الاستعمارية وبعدها وحتى اليوم في قصائد تتغنى بالطبيعة التونسيَّة في الجريد والصحراء وغيرها من جهات البلاد. القصيدة الشعبية هي صوت المزارع والفلاح والصياد وصوت الأم والثكلى والأرملة والعاشقة. الشعر لغة الحياة والإنسان وطريقته الأولى في ابتهالاته وطقوسه الدينيَّة والاحتفاليَّة.

ما تحفظه تونس من موروث، أو رصيد شعري شعبي يفوقه رصيدها الشعري في الفصيح في تقديري، هذا اذا اعتبرنا المروي والمحفوظ والمكتوب معا. 

 لكن هذا لا يلغي أن تونس تزخر بأسماء شعرية قديما وحديثا منذ القيروان في أوج اشعاعها الحضاري حتى اليوم، فيما بعد الثورة وما يليها، في ما يتعلق بالقصيدة الفصحى وباعتبار الطوفان الشعري الكبير الحالي الذي أعتبره حالة صحية وليس مأزقا أو إسهالا مرضيا كما يراه الكثيرون. 

لا أدري إن كان المجتمع التونسي يملك خصوصية شعرية، ولكن ما أعرفه كشاعرة أن القصيدة التونسية تشبه بيئتها بمعنى أنها مفتوحة كثيرا على العالم البعيد، كما خارطة البلاد، ومطلعة على رحابة الشعر الغربي والشرقي العربي، ونهلت منه الكثير حتى استطاعت بحكم شخصية التونسي المغامر، المبحر بين مياه المتوسط وأمواج الصحراء أن تتجاوز ما تعلمت إلى ما تؤسس له وما يجعلها قصيدة جاهزة للتطور والتأثير بشكل كبير.

الشعر التونسي حر بامتياز، وثائر بكل مفاهيم الثورة على الشكل والغرض وغيرها من تقسيمات مكونات العالم الشعري.

وعن حاجة المجتمع اليوميَّة للشعر فهو في البيئة البدويَّة الصحراويَّة والغربيَّة للبلاد، يمثل خبز المناسبات وشايها وخيمتها. لا تستقيم أفراح ولا مناسبات من دونه. 

لقد انساب على الألسن كاليومي فالمرأة توجِد أغنياتها للفرح والنواح وفي الشوق والأتراح. والرجل له عالمه الخاص في الواحة والحقل والرعي والمغامرات. هو لغة العقل والروح.

أما حضريا وفي المدن فهو حقل مناسبات لا غير، ولا أظن البيئة العملية المضغوطة بالحركة والتنقل والخدمات تعودت عليه إلا في إطار الملتقيات والمنتديات واحتفاليات الثقافة.

عن مدى استثمار طاقات الشعر في الحياة التونسيَّة، قالت فرجاني: التونسي منشغل بالحياة ومكابدة اليومي ولم يستطع الشعر أن يكون يوما قوتا ضروريا له أو جزءا من عاداته. 

هو في الحقيقة لدى البعض ضرب من مضيعة الوقت والجنون والثرثرة ولدى فئة قليلة أخرى ثقافة وحركة عقل وبستان خصب لتنمية العلاقة بين الإنسان والطبيعة والكائنات والتاريخ.

دائما أتعامل مع ما ينجز من شعر، سواء في تونس أو أي نقطة من العالم، على أنه مطر ناعم يغسل أدران هذا الكون ويلمّع المرايا التي تشرق عليها الشمس ومن بعدها يطلع القمر. في تونس الشعر بخير الشعبي والفصيح معا. 

القصيدة تنمو وتكبر وتتنوع وتتعدد أغراضها وأشكالها. ليس في استطاعة أحد من الباحثين أو المؤرخين إنكار ذلك، مستقبل الشعر في شمال أفريقيا. 


مكانة الشعر في التداول اليومي اللبناني 

الشاعر اللبناني الدكتور كميل حمادة، حدثني عن حضور الشعر في المجتمع اللبناني، مشيراً في بداية كلامه إلى تراجع مكانة الشعر في التداول اليومي والاجتماعي، لافتا إلى حدوث ذلك لأسباب كثيرة، تبدأ بانشغال الناس بالهموم اليوميَّة ولا تنتهي بدور وسائل الإعلام والتواصل الحديثة وسعيها إلى ترويج ما هو سريع وسطحي مما لا يوجد في الشعر، على حد

وصفه.

وأضاف حمادة مبيناً: لكن هذا لا يعني أبداً أن الشعر خرج عن دائرة الحضور خروجا تاما، فما زال المجتمع اللبناني، وخاصة في القرى والأرياف وبعض الحواضر ذات التراث الشعري، يُعنى بالشعر من خلال الغناء الشعبي والمناسبات الاجتماعيَّة والمناسبات الدينيَّة، حيث يحضر الشعر وجبة أساسية في العديد من المناسبات، لا سيما الشعر الشعبي، فالزجل اللبناني، مازال عنصراً مستقطباً للجمهور من خلال المنافسة الحماسيَّة، التي تغلب عليه بين الجوقات الزجليَّة، وما زال له الكثير من المتذوقين والشغوفين، كما أن الشعر المحكي اللبناني، يشهد حالة من العودة القوية. أما الشعر الفصيح فيعاني من تخمة المنتديات وقلة الجمهور وذلك لأسباب متعددة على الرغم من جودة هذا الشعر وحضوره في الساحات العربيَّة.

ولعل للشعر اللبناني خصوصيته الفريدة، فالشعر المحكي اللبناني من أوسع الاشعار العربية باللهجات المحكية انتشارا بسبب سهولة المحكية اللبنانية وسلاستها وعلاقة الجمهور العربي باللهجة اللبنانية، بفضل ما تركه الفن اللبناني في هذا الجمهور من أثر، خاصةً شعر الأخوين الرحباني الذي غنّته السيدة فيروز فصار رفيق الصباحات الشفيفة لمعظم العرب، يشربونه مع قهوتهم في البيوت أو في الشرفات أو في المقاهي او في المحطات والسفر. 

وقال حمادة أيضا: كما يمتاز الشعر اللبناني الفصيح بهامش الحرية الفكرية والتفاعل الثقافي في لبنان، اللذين يشكلان شرطا ضرورياً للإبداع الشعري والأدبي، يضاف إليهما حركة ثقافية ناشطة - لها ما لها وعليها ما عليها - وأحداث سياسية و وطنية ترفد هذا الشعر بموضوعاته إذ تضع بين يدي الشعراء اللبنانيين مادة ساخنة تستفز شعريتهم وتضعهم في بؤرة التفاعل مع القضايا الراهنة فيعبرون عنها بلغتهم الشعرية، لذلك كان الشعر المقاوم حاضرا جدا في الشعر اللبناني المعاصر، ساعد في انتشاره صدوره عن شعور صادق ومعاناة حقيقة، ومؤسسات إعلامية تتبنى هذا الغرض الشعري لما فيه من استنهاض للجمهور وترسيخ للقضية.

وإن كان الجمهور الشعري يقتصر على شريحة ضيقة في المجتمع اللبناني، فإن حضور الشعر اللبناني في العالم العربي مميز وملفت، كما هو من الملفت أيضا أن الشعر اللبناني متفاعل مع الشعر العربي بحكم احتكاك الشعراء اللبنانيين بأشقائهم العرب في المهرجانات العربيَّة من جهة، وبحكم استضافة المشهد الشعري اللبناني للكثير من الشعراء العرب، في العديد من الاحتفالات والأمسيات الشعريَّة في لبنان على مدار العام، إذ يشكل لبنان محطة أساسيَّة لطيور الشعر العربيَّة. 

وإذا كان الشعر بمدلوله اللغوي المباشر، يعاني من قلة الجمهور في لبنان، إلا أن الشعريَّة بمفهومها الواسع الذي يشمل الرؤية الى الحياة والتفاعل معها بجماليّة وادبيّة، الشعريّة بهذا المعنى شديدة الحضور في الذائقة اللبنانيّة، فاللبناني بجوهره معجون بالرهافة والجمالية والذائقة العالية، والتفاعل مع الحياة من منظور جماليٍّ عالي الحساسية والرهافة. رهافة تدفعك لترى الشعرية اللبنانية في مأدبة اللبناني وثيابه وعطوره ولكنته المحببة وسائر تفاصيل حياته.