ما هو النصّ؟

ثقافة 2023/06/11
...

 محمد صابر عبيد

يمكن القول إن (النصَّ) هو مفهوم حديث قياساً بالمتن الذي هيمن مفهوميَّاً على فضاء القراءة في المدونة النقدية العربيّة القديمة للدلالة على ما يكتب عموماً، ولا سيّما في حقل الإبداع بضروبه ومستوياته وأشكاله المختلفة، ويبدو هنا في سياق المنظور المفهوميّ الحديث لمفهوم (النصّ) أنه أوسع من المتن وأكثر شمولا بفضل ظهور نظرية العتبات، فالعتبات بشتى أنواعها لا تدخل شكليّاً وإجرائيّاً في مفهوم المتن، بل يشمل هذا المفهوم المتداول للمتن: النصَّ مستثنىً من العتبات.

 فالنصُّ إذن هو المتنُ زائداً العتبات، والعتبات تحيط بالمتن إحاطة كاملة ابتداءً من عتبة العنوان والإهداء والتقديم والهوامش الخارجيَّة وغيرها في سياق ما يصطلح عليه بالعتبات الخارجيَّة، أي التي تعمل خارج إطار المتن، وثمّة من يتحدّث عن عتبات أخرى داخل المتن لكنّها طبعاً عتبات متنيّة كعتبة الاستهلال وعتبة الخاتمة وعتبة الهوامش الداخليّة والإشارات والتعليقات وغيرها، بحسب طبيعة كلّ نصّ وتشكيله ومقصديته وأجناسيّته وحسّاسيّته.

 إذن المتن هو النصّ مُجرّداً من العتبات الخارجيّة المحيطة به، والنصّ هو المتن مضافاً إليه العتبات النصيّة كلّها، ويتحوّل النصّ بعد ذلك إلى خطاب ـ بحسب بول ريكورـ حين يتّصل بمجتمع القراءة ليكون فاعلاً حيّاً يخاطب المتلقّي أولاً ويُنتج فعالية التلقّي في مستواها الأوّل، ويُخاطب القارئ ثانياً ويُنتج فعاليّة القراءة في المستويات الأُخَر، يعني أنّنا نتعامل مع شبكة مصطلحات في هذا السياق هي: العتبات، المتن، النصّ، الخطاب، وهي مصطلحات حديثة جلبتها المناهج النقديّة الحديثة في ثورتها المفهوميّة والاصطلاحية والمنهجيّة والرؤيويّة والنظريّة، وأصبحت راسخة التشكيل والتداول والانتشار في ميدان الدرس النقديّ الحديث، بما يجعل منها مصطلحات أصيلة تكاد تبلغ مرحلة جيّدة من صورة الاتفاق عليها في مجتمع القراءة والتلقّي.

إذن النصّ يحيا حياةً فعّالةً حين يتحوّل إلى خطاب في حالة قراءة مستمرّة داخل ميدان المجتمع القرائيّ المسؤول، القراءة هي التي تنقل النصّ من وضعية الكمون والخفاء إلى فضاء التجلّي والظهور والتأثير، وحسّاسيّة القراءة وطبيعتها وقيمتها وجدواها هي التي تصوغ شكلاً مُعيّناً للخطاب يحرّض كلّ الكمونات النصيّة على الظهور والبروز والانتشار بصلاحيّة كاملة للقراءة، فمعنى النصّ وطبيعة نصوصيّته لا تتمظهر إلّا بوساطة حضوره بوصفه خطاباً بين يدي القراءة، وهو ما يجعل القراءة باعثاً لحياة النصّ في فاعليّة تثمير كليّة ومستمرّة باستمرار القراءة، وتعتمد نوعية الحياة النصيّة على نوعية القراءة ودرجة فاعليّتها وجدواها.

 فمعنى النصّ وصورته ودلالته وأسراره وشفراته لا يمكن أن تؤكّد وجودها الحيّ إلّا في سياق قرائيّ مُنتِج يحقّق مستوىً عالياً من الكشف، بمعنى أنّ العلاقة بين النصّ والقراءة حين تُنجِزُ مصطلح (الخطاب) هي علاقة جدليّة لا بدّ منها، ولا يُكتب لأيّ نصّ أن يكون شكلاً ولو بسيطاً من الحياة من دون أن يحرّره القارئ من كمونه الورقيّ الساقط في ذاكرة خفيّة، تحتاج إلى استحضار قويّ ينزع عنها حالة الخفاء ويُدخِلها في نطاق رؤية تحرريّة تأخذه نحو الظهور، بمعنى أنّ دور القارئ هو دور مركزيّ فاعل في بعث الحياة داخل النصّ.

مفهوم النصّ على نحو عام يشمل كلّ ما هو مكتوب على شكلٍ نصيٍّ مدوّنٍ في كتابٍ أو مجلّةٍ أو صحيفةٍ ورَقيّة أو ألكترونيّة، له بداية ونهاية ومقصد، أدبيّاً كان أم غير ذلك، ويكون قابلاً للقراءة، وإذا كان كلّ نصّ له طبيعته وشكله وهُويّته مثل النصّ الفلسفيّ والنصّ الصوفيّ والنصّ التاريخيّ والنصّ المعرفيّ النظريّ وغيرها من نصوص العلوم والمعارف الإنسانية، يذهب باتجاه المنطق والتشديد النظريّ في نظم الصوغ والتعبير والحجاج، فإنّ النصّ الأدبيّ على هذا النحو هو نصّ آخر، نصّ مختلف ومغاير تماماً.

يتمتّع النصّ الأدبيّ بخصوصيّة تخييليّة ومجازيّة بالغة وطبيعة تعبيريّة وتشكيليّة نادرة تنحرف كثيراً عن الكلام الطبيعيّ المتداول المعروف، ولا بدَّ لقارئه أن يدلف إليه بروحٍ قرائيّة أخرى، وقصديّة قرائيّة أخرى، ومزاج قرائيّ آخر، لا تتوقّف عند حدود بلوغ المعلومة والحصول على الفكرة والمعنى الواضح الذي لا لبس فيه، بل يذهب القارئ أبعد من ذلك كثيراً في إنتاج أفكار وقيم ومعانٍ متنوّعة تتجاوز المعنى المجرّد والمعلومة الظاهرة.

حين نسأل النصّ عن هُويّته لا بدَّ أن نبحث في أدبيّته وشعريّته داخل فضاء الخيال والعاطفة وحراك الوجدان المترامي الأطراف في الاتّجاهات كلّها، وهي الصفة النوعيّة الخاصّة التي تجعل من الكلام أدباً، وتمنحه صيغة لا يمكن التعامل معها والسعي إلى فهمها من غير إدراك طبيعتها القرائيّة الخاصّة، وربّما لا خلاف في ذلك إلّا على مستوى القيمة، فقد يتفق القرّاء على أدبيّة نصّ معيّن لكنّهم بالتأكيد يختلفون في القيمة الفنيّة والجماليّة له، وفي درجة تفاعلهم معه استناداً إلى أشكال حسّاسيّاتهم وطبيعة ثقافاتهم وإعدادهم المعرفيّ، وبحسب الرؤية الثقافيّة القرائيّة لكلّ قارئ، وهذا الاختلاف في تناول شعرية النصّ أو أدبيته إنّما يسهم في إثراء القراءة وتوسيع الفعاليّة القرائية وتثمير إمكانات النصّ.

أدبية النصّ صفة أسلوبيّة قد تظهر على أصناف عديدة من النصوص، ولا تتوقّف عند حدود النصّ الأدبيّ (الشعريّ والسرديّ) على نحو خاصّ، إذ يمكن أن ننظر إلى (النصّ النقديّ) في منظوره الكتابيّ الحديث نظرة أدبيّة حين يتجاوز عتبة الكتابة المُلحَقة ويتحوّل إلى نصّ مستقلّ ومتكامل، فلم تعد القراءة النقديّة الحديثة تابعةً للنّصوص الإبداعيّة (الشعريّة والسرديّة) التي تشتغل عليها وتسير على هامشها، بل تحوّلت إلى نصّ كامل الاستقلاليّة يقارب النصوص الإبداعيّة لكنّه يعمل نصيّاً على وفق رؤية نوعيّة تجتهد في تشكيلٍ نصّيٍّ متكامل وغير خاضع للنصّ الأدبيّ الذي يعمل عليه، بل يتّجه نحو فضاء نصوصيّ جديد له هُويّته 

النصيّة.

فالّلغة النقديّة صارت اليوم لغةً نصيّةً تنهض بدورين رئيسين، الأول: الاشتغال على رصد النصّ الإبداعيّ وتحليله وتأويله، والثاني: إنجاز نصّ نقديّ مُنتج للمتعة القرائيّة الخاصّة بما يتمتّع به من أسلوبيَّة تعبيريَّة نوعيَّة.

وربّما يكون مصطلح (النصّ النقديّ) على هذا النحو جديداً على ثقافة القارئ وهو يتطلّع في سياق الرؤية المفهوميّة لمصطلح (نصّ) إلى فكرة وجود الإبداع فيه، على مستوى اللغة النقديّة والأسلوبيّة النقديّة، بمعنى أنّ النظرة إلى النصّ النقديّ كانت دائماً على صلة بالمعرفة الفكريّة والثقافيّة أكثر من الفكرة الأدبيّة، إلّا أنّ الدرس النقديّ الحديث أسهم في نقل الكتابة النقديّة إلى فضاء نصّيّ مخصوص يعمل لحسابه، ويتزيّا بخصائص إبداعيّة لا تكتفي بتقديم الفائدة العلميّة، وتعزيز فهم طبقات النصّ الأدبيّ المنقود أو الظاهرة الأدبيّة المرصودة، بل تذهب إلى أبعد من ذلك نحو استقلاليّة النصّ النقديّ إمتاعاً وإبهاراً وقدرة على إقناع القارئ بمقاربة نصّ مزدوج الفائدة والمتعة، له لغته وأسلوبه وطاقته التعبيريّة والتشكيليّة الخاصّة.