ريسان الخزعلي
(1)
التدوير في الشعر العربي بشكلهِ الأوّل قديم، إلّا أنه كان يحصل على مستوى البيت الشعري الواحد وذلك بتدوير حرف على الأعم أو حرفين. ولم يحصل على مستوى القصيدة كاملة أو بعض مقاطعها إلّا حديثاً، أي في القرن العشرين، كما في تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر، الذي منحهُ فضاء كاملاً في مجاميعه (الطائر الخشبي، زيارة السيدة السومرية، عبر الحائط في المرآة) وجعل منه شكلا جديداً في القصيدة العربية، وقد تبعهُ بعض من الشعراء لاحقاً. كما أن َّ الشاعر أدونيس في قصيدة (هذا هو اسمي) المكتوبة عام 69 قد استخدم التدوير فيها وبأسبقية على غيره، إلّا أنهُ لم يُعمّق هذا الشكل كما فعل الشيخ جعفر. وللشاعرين (خليل خوري ويوسف الخطيب) محاولتاهما المحدودتان في التدوير أيضا، لكنهما لم يُعمّقا ما حاولاه، وبقيت المحاولتان عابرتين.
(2)
الشاعرة نازك الملائكة شاعرة رائدة، مجددة في شكل القصيدة العربية بحدود تجربتها ولونها. وكان لها من السَّبق الكثير في التنظير للشعر العربي في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) إذ كانت تتمتع بحساسية نقدية خاصة والمت أفكارها عن الشعر وفكرة الشعر وقواعده العروضية والفنية.
الملائكة، في شعرها صنعة فنية (باردة)..، مما يفقده حرارة الحسيّة ونداوة القول وإشعاع الصورة الشعرية. وما يشغل هذه الإشارة أكثر من غيره، مهارتها في التدوير والعروض. وقد انتبه الشاعر أدونيس إلى هذه المهارة في التدوير وانعكس ذلك في قصيدته المعروفة (هذا هو اسمي) كما سيتضح لاحقاً.
لقد أشكلَ على قولي – مهارتها في التدوير – بعض المهتمين بالشعر العربي الحديث، وتم اعتبار قولي هذا ترفاً خارج ممكنات الشاعرة التجديدية/ الفنية.
إنَّ قولي لا يُشير إلى أنَّ الملائكة استخدمت التدوير على مستوى قصيدة كاملة، وإنما استخدمت تدوير البيت الواحد ولكن في معظم أبيات القصيدة، قصيدة (حصاد المصادفات) من ديوان (قرارة الموجة) كمثال وليس الحصر. وتقول الملائكة عن هذه القصيدة في مقدمة ديوانها (شجرة القمر): إنَّ هذه القصيدة من البحر الخفيف وهي جارية على أسلوب الشطرين وقد أدرجتها على أساس من العروض العربي، فشطرتُ البيت إلى شطريه وإن كان أغلب أبياتها مدوّراً، وسيُلاحظ انني قد خالفتُ خطّتي في كتابة البحر الخفيف، فقد كتبتهُ دونما مراعاة للوقفة العروضية وإنما راعيتُ في الكتابة المعنى وحده:
حينما يرقدُ الهوى ميّتاً
فوقَ ترابِ الأيّامِ والأعوامِ
وتعودُ الذكرى صدىً جامدَ الوقعِ
لعهدٍ مغلّفٍ بالظلام..
وبذلك لاحت القصيدة – خاصة القارئ الذي لا يحسّ الوزن – وكأنها شعر حرّ أو شعر منثور مع أنها قصيدة موزونة من البحر الخفيف جرت هكذا:
حينما يرقدُ الهوى ميّتاً فو قَ ترابِ الأيّامِ والأعوامِ
وتعودُ الذكرى صدىً جامدَ الوق عِ لعهدٍ مغلّفٍ بالظلامِ
ولنلاحظ ما يتلو هذين البيتين من القصيدة ذاتها (حصاد المصادفات):
وتموتُ الألوانُ في المُقلِ الجدْ باءِ في حسرةٍ وفي استسلامِ
ويُذيعُ الفراغُ أغنيةَ الجدْ
بِ وتطْغى الفوضى على الأنغامِ
حينما يُصبحُ الهوى قصةً كا
نت ومرّت بالكونِ منذُ عصورِ
عشّشَ الصمتُ في خرائبها النك راءِ خلفَ الخيالِ والتفكيرِ
وطوى نبضها انصبابُ البرودِ الـ مرِّ في كل شهقةٍ وشعور ِ
وهكذا تستمر الشاعرة بتدوير أغلب أبيات القصيدة بالمحافظة - العمودية/ الأفقية - على شكل البحر الخفيف، ولو كُتبت القصيدة بمراعاة المعنى وحده من دون مراعاة الوقفة العروضية كما قالت، لكانت القصيدة مدوّرة بالكامل حينما تُكتب بشكلٍ أفقي كما تُكتب القصائد المدوّرة، ولكانت الملائكة رائدةَ التدوير في الشعر العربي - إذ إنَّ القصيدة مكتوبة عام 49 - لكنَّ غاب عنها الإلتفات إلى التدوير الكامل واكتفت بمرجعية التدوير على مستوى البيت الواحد الذي كان يحصل في شكل الشعر العربي بمختلف العصور؛ ولم يخطر لها أن تكتبَ القصيدة بشكل أفقي متتابع من دون وقفات وذلك تمسّكاً بعروضيّتها وحسّها الموسيقي أولاً، ثمَّ خشيتها أن تُحسب القصيدة شعراً منثوراً ثانياً، كما أوضحت في المقدمة.
(3)
مهارة الملائكة - مراعاة المعنى - هذه في التدوير، التفت إليها الشاعر أدونيس وكتبَ قصيدة (هذا هو اسمي وعلى بحر الخفيف أيضاً في معظم مقاطعها، إلّا أنهُ كتبها بشكلٍ الشعر الحر مع فواصل فراغية رغم عموديتها الخالية من الروي والتقفية، وبتدوير كامل القصيدة وبإيهام شكلي بارع:
ما حياً كلَّ حكمةٍ هذهِ ناريَ
لم تبقَ – آيةٌ – دمي الآيةُ
هذا بدئي
دخلتُ إلى حوضكِ أرضٌ تدورُ حوليَ أعضاؤكِ
نيلٌ يجري طفونا ترسبنا تقاطعت في دمي قطعتْ
صدركِ أمواجيَ انهصرتِ لنبدأ: نسيَ الحبُّ شفرة الليلِ هل
أصرخُ أنَّ الطوفانَ يأتي؟ لنبدأ: صرخةُ تعرج المدينةَ
والناسُ مرايا تمشي ................................................
وحين نُعيد الكتابة بالشكل العروضي سنجد البحر الخفيف ينتظم القصيدة:
ما حياً كلَّ حكمةٍ هذهِ ناريَ لم تبقَ آيةٌ دمي الآ
يةُ هذا بدئي دخلتُ إلى حو ضكِ أرضٌ تدورُ حوليَ أعضا
ؤكِ نيلٌ يجري طفونا ترسب نا تقاطعت في دمي قطعتْ صد
ركِ أمواجيَ انهصرتِ لنبدأ نسيَ الحبُّ شفرةَ الليلِ هل أص
رخُ أنَّ الطوفانَ يأتي؟ لنبدأ صرخةُ تعرج المدينةَ والن
وعند اعتماد التقطيع العروضي للأشطر الشعرية هذه، نجد أنَّ البناء التفعيلي لا يخرج عن:
فاعلاتن متفعلن فاعلاتن
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
فعلاتن متفعلن فاعلاتن
وهذه هي تفعيلات البحر الخفيف الأساسية والتحوّلاتية، وأنَّ أدونيس مازال في النظام رغم الإيهام الشكلي في الكتابة.
وهكذا كانت انتباهته (السريّة) لتدوير الملائكة قد أفضت به إلى التدوير الكامل. ألم أقل أنَّ لنازك الملائكة مهارة التدوير..؟