ثامر عباس
لإعطاء فكرة مبسطة عن الغاية أو القصد المراد من طرح هذا الموضوع، فقد آثرنا الابتداء بصيغة السؤال التالي: هل قراءة الكتب الثقافية توازي ثمن مكابدات القارئ؟!. وقبل أن نعطي جوابا”على مثل هكذا سؤال حري بنا الإقرار بحقيقة؛ أنه في معظم لغات الأمم وثقافات الشعوب لا يكاد يختلف اثنان إزاء معنى لفظة (القراءة)، مثلما لن يختلفا إزاء ما تحمله هذه اللفظة من دلالات ايجابية واضحة وصريحة، بحيث قلما تحتاج تينك اللفظتين إلى إعمال العقل في التحليل أو التأويل أو التعليل لحيازة المعنى واستخراج الدلالة.
أي بمعنى أن هذه القاعدة العامة في معناها والشاملة في مغزاها، لا تسري أو لا تنطبق على البعض من المجتمعات، التي فقدت حصانتها وأهدرت كرامتها وانتهكت حقوقها وأعيقت حضارتها، حيث يحمل فعل (القراءة) - بالنسبة للمنخرطين في هذا النشاط الثقافي - نوعين من الدلالات ؛ الأولى (ايجابية) تشي بكم وكيف المردودات الفكرية والمعرفية، ذات القيمة الاعتبارية العالية، التي يجنيها الفاعل الاجتماعي على المستويين الشخصي والجماعي.
والدلالة الثانية (سلبية) تضمر للمتجرأ – المغامر- محاذير جمّة ليس أولها الوقوع في مغطس الهامشية الاجتماعية، والخضوع للمعاناة الاقتصادية، والتجرع للمكابدات النفسية فحسب، بل وكذلك التعرض للمطاردات البوليسية والتهديدات الأمنية، التي قد تستهدف الفاعل ذاته ككيان اجتماعي وكوجود إنساني، لا سيما في ظل ظروف سياسية وأوضاع تاريخية وسياقات حضارية غالبا ما تتسم بالشذوذ والانفلات، كما هي حال غالبية هذا النمط من المجتمعات.
والحال هل يعني ذلك أن على من يرغب ممارسة فضيلة (القراءة) من أفراد وجماعات البلدان المستباحة بمظاهر التخلف والتشظي والتشرذم، أن يقتلعوا هذه الفكرة من أذهانهم نهائيا، وينصرفوا للبحث عن مجالات وأنشطة أخرى لا تسبب لهم الأذى ولا تلحق بهم الضرر، بقدر ما تحقق لهم الكسب المادي وتمنحهم الراحة النفسية؟!.
الحقيقة أن أبعد ما يكون عن مرامي هذه المقالة هي الدعوة إلى هجر الكتاب أو الترويج لترك القراءة من قبل الراغبين بإغناء معارفهم الفكرية، وتوسيع آفاقهم الثقافية وتطوير ملكاتهم الذهنية، بدعوى أن (المواطن) في مثل تلك المجتمعات المستباحة يكفيه ما يعانيه من صنوف القهر السياسي، ومظاهر الظلم الاجتماعي، وأساليب الحرمان الاقتصادي، وأشكال الاستعباد الثقافي، وضغوط الاحتقان النفسي.
وبالتالي لا حاجة له بزيادة الأعباء الاقتصادية ومفاقمة المعاناة النفسية ومضاعفة المكابدات الاجتماعية.
ذلك لأن (القراءة) – في كل الأحوال والظروف - هي المدخل الوحيد والشرط الأساسي، الذي يستطيع الإنسان من خلاله الولوج إلى عالم الثقافة الرحيب والتجوال في رحاب الفكر الواسع، حيث الضمان الأكيد للتخلص من كل ما يكبل العقل ويغل الروح ويشل الإرادة.
وإذا ما تبين لنا ان فعل (القراءة)، ليس فقط كونه (مرغوب) و(مطلوب)، بحيث يراد له يمارس على نطاق واسع من لدن الجميع، نظرا لما يحمله من مكاسب اعتبارية (ثقافية وأخلاقية وإنسانية) فحسب، بل وكذلك هو (ضروري) و(مصيري) لإحداث التغييرات الجذرية والتحولات النوعية الواجب إجراؤها على صعيد إنضاج الوعي الحضاري للفاعل الاجتماعي من جهة، وتنمية إحساسه بقيمته الذاتية من حيث هو إنسان متفرد من جهة ثانية، وتعظيم شعوره بانتمائه للأنا الجمعي، الذي يحمل نمط شخصيته ووشم هويته من جهة ثالثة.
ومع كل ذلك، فإن سؤالا يبقى بحاجة إلى إجابة؛ هل أن مجرد الانغماس بفعل (القراءة) قمين بانتشال القارئ من وهدة الجهل الثقافي، وتحسين مستواه الفكري، وتهذيب سلوكه الاجتماعي؟!. بالطبع كلا. ذلك لأن هذا الأمر لا يتعلق (بكم) الكتب التي تقرأ، بقدر ما يتصل (بنوع) الأفكار التي تطرحها، والقيم التي تحملها، والفكرة التي تسوقها، الرسالة التي تروجها. إذ لا يخفى أن الكثير من الكتب حملت بين متونها الكثير من الخرافات والمغالطات والعصبيات، التي ساهمت – وستسهم – في الحطّ من قيمة الإنسان وهدر كرامته، عبر تشويه وعيه ومسخ شخصيته ووأد إنسانيته، مثلما كانت – وستكون – عاملا من عوامل صيرورته كائنا متوحشا لا يعرف سوى قوانين الغاب وشرائع الافتراس!.