السياحة الداخليَّة.. انتعاشٌ وآمال
فجر محمد
تصوير: خضير العتابي
معالم دينية وأخرى أثرية وثقافية، ومزارع بمساحات خضراء جاذبة ولافتة للأنظار، لم تكن تحظى بالاهتمام المطلوب سابقا، لكنها اليوم أصبحت مقصدا للأسر لإمضاء عطل نهاية الاسبوع فيها، فضلا عن أيام الأعياد، وهذا يدل على عودة وانتعاش السياحة الداخلية في البلاد بشكل كبير وواضح.
تتألق المساحات الخضراء والأشجار المثمرة، التي تبدو للناظرين، وكأنها لوحة فنية رسمت بعناية ودقة تتخلها منازل ومنتجعات سياحية، أصبحت تستقطب عددا لا يستهان به من أسر قررت الابتعاد عن الصيف اللاهب، ودرجات الحرارة المرتفعة، فعلى الرغم من الأزمات التي عصفت بالزراعة في الأعوام المنصرمة، من جفاف وشح المياه وغياب الدعم الحقيقي للمنتوجات الزراعية المحلية، إلا إن المزارع (ابو تحسين) وزملاءه استثمروا أوقات الوفرة التي هطلت فيها الامطار، ليعتنوا بمساحاتهم الخضراء بشكل جيد، لتصبح مقصدا للعديد من الأسر، التي تمضي عطلة نهاية الاسبوع والأعياد فيها، مقابل أجور مادية معينة.
يهرب إياد جاسم ورفاقه من شمس حزيران اللاهبة، باتجاه تلك المزارع، التي تقع خارج ضجيج وضوضاء المدن، فهو يبحث عن الهدوء والسكينة، بعيدا عن أصوات منبهات السيارات وازدحامات الشوارع الشديدة، ويقول إياد: "نقوم بحجز مزرعة خاصة بنا نحن الأخوة وأولاد العم، نمضي فيها عطلة نهاية الاسبوع، اذ نتواصل مع صاحب تلك المزرعة عبر (الفيسبوك والانستغرام) أحيانا، ونقوم بحجزها".
اما ابو مروة فهو يتجول في مواقع التواصل الاجتماعي، ويجري اتصالاته مع أصحاب المزارع، فهو غالبا ما يقوم نهاية الإسبوع بحجز مزرعة صغيرة، ليلتقي بأولاده وأحفاده ويمضي الوقت برفقتهم ويقول: "كنت اصطحب أهلي سابقا إلى إحدى دول الجوار، ولكن بعد ظهور هذه الأماكن المنظمة والمرتبة، أصبحت أفضل هذه المنتجعات أكثر كونها قريبة، وتكاليفها ليست بالباهظة، قياسا بالسفر خارج البلاد".
تجدر الاشارة إلى أن انبثاق هذه الفكرة كان من أصحاب إحدى المزارع، ولكنها قوبلت بالرفض والانتقاص منها آنذاك، ولكن لاحقا تمَّ تطبيقها ولاقت رواجًا ونجاحا وعلى وجه الخصوص، من قبل الاهالي والأسر، الذين أصبحوا يتوجهون لهذه الأماكن، ولكن بطريقة منظمة وليست عشوائية، اذ تمَّ انشاء عدد من (الكروبات) على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها "الفيسبوك والانستغرام"، اذ يتم التواصل مع صاحب المزرعة وحجزها لمدة يومين أو أكثر.
ويذكر أن بعض تلك المزارع، بدأت تنظم عملها وفق تعليمات صادرة عن قائم مقامية المدينة والجهات الأمنية فيها، وذلك لغرض منح الرصانة لهذه الأماكن السياحية، وتنظيم عملها بما يخدم المواطن ويحافظ على أمن وسلامة المكان.
أصبح العديد من سكان المدن والمحافظات المختلفة، يبحثون عن متنفس لهم خارج مدنهم، التي تعج بالضجيج والتلوث وأصوات السيارات، والأدخنة والملوثات المختلفة.
وبحسب الباحث والناشط البيئي الدكتور قيس جاسم فإن التلوث البيئي، الناتج عن السياسات المخلتفة من إهمال وعدم تطبيق قوانين صارمة بحق المخالفين، جعل من مدن البلاد أماكن غير صالحة للعيش، ويرى سعود أن الاهتمام بالمساحات الخضراء أكثر، سيعمل على تنقية الأجواء وجعلها صالحة للعيش وسيقلل التلوث ايضا.
أمنٌ مجتمعي
يعتقد الخبير والمدون الزراعي عبد الامير علي العزاوي، ومن خلال متابعته لمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة من خلال ما ينشر في كروبه الزراعي الذي يديره، أن هنالك قسمًا من أصحاب البساتين والمزراع الصغيرة، والتي فيها مبانٍ سكنية كالبيوت المبنية على شكل قصور، وفلل تتوفر فيها وسائل الترفيه، كالمسابح والحدائق والنباتات والأشجار، عرضوها اليوم للإيجار أمام الأسر والأهالي لقضاء أيام العطل والمناسبات، مقابل مبلغ مادي عن كل يوم أو ساعات معينة، اذ يتم توفير كل وسائل الراحة والاستجمام، ومن وجهة نظر العزاوي هي فكرة جيدة، لكن يجب أن تكون هذه الأماكن، تحت أنظار وموافقة الجهات الحكومية، حفاظاً على الأمن المجتمعي، وكي لا تكون بيئة حاضنة لبعض ضعاف النفوس، تمارس فيها أمور خارجة عن العادات والتقاليد، وربما تسبب ضررا على الساكنين بالقرب من تلك الأماكن والمناطق.
تنوعٌ ثري
عميدة كلية اقتصاديات الأعمال في جامعة النهرين الدكتورة نغم حسين أوضحت، أن "العراق يتمتع بتنوع سياحي ثري ما بين الطبيعة الخلابة، والمناطق الآثارية والمراقد المقدسة والأماكن الدينية، وكلها تجذب الكثير من السياح، مثلاً فإن بحيرة الحبانية تتميز بطبيعتها وبحيرتها، إضافة إلى وجود الشاليهات لمبيت الوافدين، اما قرية دجلة في بغداد فتميزها النافورة، التي تشبه أخرى موجودة في الإمارات، بينما يميز المرافق السياحية الأخرى وجود مدن الألعاب، وفي محافظات الجنوب هنالك مدينة الناصرية، والآن في طور إعادة تأهيل الآثار وإنشاء منتجع سياحي، ويوجد في محافظة البصرة الكثير من المعالم السياحية، وكذلك الأنبار، توجد فيها النواعير، وديالى فيها سد حمرين، وسيكون هناك منتجع سياحي قريبا، وهناك سائحون أجانب يزورون المواقع السياحية العراقية، ومنها مدينة السماوة، وتحديدا بحيرة "ساوة"، وفي القريب العاجل ستضاف هذه البحيرة، إلى المنافذ السياحية في العراق.
لافتة إلى أن "السياحة الداخلية تعدُّ من الناحية التأريخية أول أشكال السياحة، التي ما زالت قائمة حتى اليوم، وتمثل الجزء الأكبر من النشاط العالمي في هذا القطاع، ويقدر خبراء الاقتصاد في منظمة السياحة العالمية، وهي تمثل ثلثي السياحة الكلية".
مقومات عديدة
لايخفى على أحد ما تتمتع به البلاد، من مقومات تساعد على نجاح قطاع السياحة الداخلية فيها، لما تحتويه من معالم دينية وطبيعية وأثرية وثقافية، وهذا ما يعده الخبراء رافدًا اقتصاديًا مهمًا، اذا تم استغلاله والاهتمام به بشكلٍ جيد، ولا يقتصر الأمر على وجود المزارع والشاليهات المذكورة، بل هناك معالم أثرية وثقافية، ومدن تعود إلى عصور سحيقة، وترتبط بحضارات السومريين والآشوريين، اندثرت تحت التراب، لكن إذا تمَّ الاعتناء بها وإحياؤها من جديد، فبالتأكيد ستكون مقصدا للسياح، ليس من داخل البلاد فقط، بل من خارجه ايضا.
تشير التقارير إلى وجود خطط لترميم وإصلاح العديد من المواقع الأثرية، بهدف جذب أكبر عدد ممكن من السياح، وفي وقت سابق أعلنت وزارة السياحة والآثار نيتها ترميم وإصلاح العديد من المواقع والترويج لها، عبر وسائل الإعلام، لاستقطاب أكبر عدد ممكن من السياح، ومن مختلف الجنسيات.
سمارة شاهين تفضل زيارة المعالم الثقافية والاثرية، اذ تصطحب أسرتها بين الحين والآخر إلى زيارة آثار بابل، والتجول فيها، وهي تعتقد أنها في كل مرة تكتشف شيئا جديدا من تلك الآثار والحضارة المهمة.
وتقول سمارة: "أصبح الاهتمام بالتراث والاثار، شيئًا مهمًا جدا ليس لكونها مصدرًا اقتصاديًا مهما للبلاد فقط، بل لتتعرف الأجيال على عمق وقدم حضارتهم وما قدموه للبشرية جمعاء".
جذب الاستثمار
الباحث بالشؤون الاقتصادية والأكاديمي الدكتور ليث علي بيّن أن "هكذا مشاريع ليست بالجديدة، ولكن طريقة التسويق لها، والتشجيع عليها أخذت نمطًا جديدا واسلوبا، يعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعد خبراء الاقتصاد هذه الطرق تندرج ضمن مفهوم ريادة الأعمال، وهو يشبه إلى حدٍ بعيد تجربة الصين، التي أتبعتها في مختلف المجالات الصناعية والزراعية، كما يرى علي في الوقت ذاته أن هذه المشاريع تنطوي على مخاطرة كبيرة بإمكانية نجاحها أو فشلها.
ومن وجهة نظره فإن امكانية نجاحها متوفرة وبشكل كبير، فهي تشجع السياحة الدخلية وتفتح الأبواب أمام سكان البلد الواحد، ليتعرفوا على خيرات بلادهم، والمناطق والمساحات الخضراء، فضلا عن أن تلك المنتجعات تندرج ضمن المشاريع الصديقة للبيئة، التي تدرُّ أرباحا جيدة على أصحابها، كما أنها قد تسهم، ولو بنسبة بسيطة، بالتقليل من حجم البطالة، نتيجة توجه أصحاب تلك الأماكن إلى تطويرها وتأثيثها بطريقة لافتة للنظر وبمساعدة أيدي عاملة ماهرة.
مشيرا إلى أن "هذا النوع من المشاريع جاذبٌ للاستثمار، وقد يسهم بتشجيع الفرد على الاستغناء عن السفر والسياحة خارج البلاد، بسبب وجود تلك المساحات الخضراء الغنية بالثروات النباتية والحيوانية".
ولا يقتصر الأمر على تلك المنتجعات، بل يرى علي أن هناك العديد من الآثار الحضارية والتراثية العريقة، التي تستحق أن تسلّط الأضواء عليها.
شروطٌ مهمة
يؤكد الخبير والمدون الزراعي عبد الأمير علي العزاوي أن فكرة إنشاء منتجعات سياحية أهلية أو قطاع خاص، من الضروري أن تحظى بموافقة الجهات الحكومية، المتمثلة بالوزارات التالية الزراعة والصحة والبيئة، فضلا عن السياحة، والسلطات الأمنية، وغيرها من الجهات الحكومية والأمر يتوقف على طبيعة الأرض، هل هي ملك شخصي صرف أم عائدة للدولة كأراضي العقود، لأن مسألة تغيير جنس الأرض، يجب أن يكون بموافقة الجهات الحكومية، التي ذكرتها كي نضمن نجاح هذه التجربة التي قد تعود بالفائدة، لتطوير السياحة في البلد، إضافة لزيادة المساحات الخضراء، التي يجد العزاوي أنها بالفعل قد بدأت بالزيادة، نتيجة جهود الجهات المختصة لتطوير الحدائق العامة في بغداد، والمحافظات وإنشاء منتجعات سياحية وترفيهية، ومن الضروري إشراك القطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، التي تعنى بالزراعة وبقية القطاعات بهذه المبادرات والفعاليات المهمة
للبلاد.