ﺳﺨﺎء ﺣﻤﺪ ﺟﻨﻮد: اللوحة مسرحي وأنا جمهوره

ثقافة 2023/06/13
...

 علي العقباني


فنانة تشكيليَّة ومدرسة بكلية الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي، ومساعدة مخرجة ومسؤولة سينوغرافيا في المسرح، وحكم ناشيونال في لعبة الريشة الطائرة، ومدرّبة لياقة بدنيّة، ومنشطة مسرحيّة، ومسافرة أبديّة في رحاب الحياة والطبيعة والفن، ربما إذا قرأنا أكثر في سيرتها الذاتيّة قد نجد ما سيدهشنا، فهذه الفنانة السورية الموهوبة والمشبّعة بطاقة الفن والحياة واللون والحركة، يبدو أنّها تستكين أمام بياض اللوحة، وتترك أصابعها ترسم بريشة روحها بتحدٍ كبيرٍ، ألواناً محتفلة ومفارقة ووجوه صامتة وأجساد تكاد لا تتحرك.

بدأت سخاء جنود الرسم في مرحلة مبكرة من طفولتها من خلال رسم الوجوه، كما تقول: كان ذلك تحدٍ مع نفسي في رسم الوجوه كرفاق الدراسة، واستمرَّ ذلك اثناء دراستي دبلوم التربية الرياضية، ودبلوم التأهيل التربوي، ففي تلك المرحلة لم تكن العاطفة نحو الوجوه هي التي تقود الفنانة لاختيارها هذا الوجه أو ذاك، وإنما الملامح كانت تفرض نفسها، وربما الإحساس الطفولي أو تفصيل ما في الوجه من بسمة أو عبوس أو تجهّم.

وفي تلك المرحلة تغيب الطبيعة عن رسوماتها وهي ابنة الطبيعة والأشجار والمساحات الواسعة والحجارة السود واحمرار التراب البركاني وتنوع التضاريس، هنا تضيف جنود: لم أرسم الطبيعة وقتها أبدا، فأنا لا أؤمن في أن أحبس الفضاء الرحب في لوحتي العاجزة عما تمنحه الطبيعة في الواقع. 

تأثيرات المكان والوسط المعيش والطبيعة والهويات بدت واضحة في مرحلة تالية من حياتها، فقد بدأت بأعمال نحتيَّة بالصلصال اتّسمت بالواقعيَّة وكانت راقصات الباليه جزءا من اهتماماتها، فضلا عن وجه جدها الذي عاشت عنده في المرحلة الاعداديَّة والثانويَّة، ووفقاً لتعبيرها "كانت تجاعيد وجهه مشدودة دائما بابتسامة تمسكت بها كحبال نجاة في خوفي وفي ضعفي". 

عملت جنود بعد ذلك سنوات في المسرح، وخلال تلك الفترة كانت ترسم لوحاتها بألوان الإضاءة والحركات الراقصة وإيقاعاتها والتكوينات بالممثلين والديكور والملابس وضجيجها، لكنها كانت آنيَّة تنتهي بالإعتام واسدال الستائر، تلك المقارنة بين عمل المسرح واللوحة جعلها تنظر بعين مختلفة كما تصف: اللوحة أكثر استمراريَّة أولا، كما أنَّها أكثر إطاعة لي تتحمّل سخطي وغضبي وفرحي ورقصي فهي مسرحي الخاص وأنا جمهوره. 

دخلت جنود كلية الفنون الجميلة وتخرّجت منها بثلاث جوائز للمتفوقين على مدار ثلاث أعوام. "وما زلت مستمرة في البحث عن قيم الحق والجمال والمعرفة في العمل الفني من خلال ما نتجرعه لداخلنا ونحاوره في ذواتنا ثم نعيده للحياة مخترقا جدار اللوحة المحفِّز تاركا أثرا ما".

 ولأنَّ أعوام البدايات والتشكل لا بدَّ فيها من مؤثر، أو معلّم، أو ملهم، أو فنان، أو لوحة، مدرس، أو قريب، أو طبيعة، أو مدرسة فنيَّة بعينها، فإنَّ جنود تشير إلى أنَّ: معلمي الأكبر هو الطبيعة التي تحتضن بيئتي المحيطة ومجتمعي الزاخر بالعادات والتقاليد والأفكار السياسية والايديولوجية في جو استثنائي في جبل بازلتي له خصوصيته، نحتته الطبيعة وشكلت جمالياته، تلك كانت تأثيرات اللون، والوجوه، والتنوع، والأشكال. أما تأثري بفنان معين، فتضيف جنود: "كان خليطاً من لوحات عديدة تعود لأسماء مختلفة لم أحاول أن أقلّد أحدا أو اندرج تحت عباءة أحد لأننا مختلفون تماما والعمل الفني لا يمكن أن يشاركك به أحد، فهو احساسك وحدسك مصداقيتك وتلقائيتك، وهذا لا يلغي التمعن في الأعمال التي قدمت وتُقدم فهي زادنا، ولكن من وجه نظري الخاصة كأن يكون التأثر كحالة إضافة الخميرة للعجين وليس أن نطهو الطبق نفسه". 

 يمكن أن نضيف لما سبق التأثر التعليمي بالمدارس الفنية التشكيلية، وهذا غالباً ما يطبع التجارب الأولى، وربما يكون طبيعياً لحين تشكل الخصوصية، تقول جنود: أنا أكره سياسة القطيع والفرشاة ليست عصا لتسوق ألوانك بها ضمن قوانين مدرسة تشكيليَّة. بقناعتي أن كل إنسان فنان وكل فنان مدرسة، وهذا ما يمكن أن نجده في المدرسة الساذجة او البدائيَّة او رسومات الأطفال فقد أثمرت في مراحل مختلفة، حتى أن أهم الفنانين العالمين تأثروا بها ومنهم بيكاسو والذي ذكر في زيارته لمعرض للأطفال "عندما كنت في سنهم كنت أرسم مثل رافايل، ولكني استغرقت العمر كله لتعلم الرسم مثلهم"، وهذه الفكرة تعود للشاعر بودلير حيث قال "العبقرية ليست إلا طفولة استعيدت بالإرادة "، وتوضح سخاء أن: اللوحة الساذجة تضاهي أعمالا لفنانين غاية في الشهرة، وبرأيي الخاص أن هذا التوجه في الفن والذي يرفع الغطاء عن تسييس الفن والأسماء وما وراءه من غايات ربحيَّة يمنح الحق للفن ليتقدم بصفة المُخلص، نعم المُخلص حيث يصبح حق شرعي للعامة تمارسه من دون قيد أو شرط كحالة صحيَّة يُفرغ فيها الفنان بكل حالاته البدائي أو المريض او السجين او الطفل او الأكاديمي مكنوناته ويعبر بها عن نفسه وأوجاعه وفرحه وهمومه، وكم نحن بحاجة لمن يشاركنا همومنا من دون انتقاد او لوم او نصيحة، ليصبح للفن جانب علاجي في تنقية النفس وتهذيبها وخاصة في زمن سيطرة التكنولوجيا وتسيير العالم من خلالها، فنتخلص من واقع تطبق فيه المادة على أرواحنا وأحاسيسنا وإدراكنا. فالتخزين الأكاديمي يعطل العفويَّة كما أنَّ العقل الواعي يبطل الإبداع. ولكن في المقابل هناك متلقٍ على الفنان أن يُقدم لوحته إليه أياً كانت التجربة والمدرسة، وهنا تقول جنود: الجانب الآخر الذي يوازي أهمية الجانب الأول هو المتلقي فعليه أن يتحرر من كل ما يقيده في القراءة كي يجد ما يريد في العمل الفني وليس ما يريده الفنان وهذا ما قصده العالم النفسي رورشاخ، وهنا نجد أن المتلقي مبدعٌ آخر.