عقيل هاشم
في كتابه (الخطاب البصري وفاعلية البنى الاخراجية المسرحية المعاصرة)، يطل الكاتب والمخرج علي العبادي بإصدار جديد عن دار امجد للنشر والطباعة 2023، إذ يتوقف الكتاب عند محطات شكلت خريطة الابداع في مجال المسرح لعقود طويلة. شارحاً ذلك الارتباط الفريد بين حركة المجتمع والمدارس الفنية، بعد أن وضع يده على أهم التحولات التاريخية المرهونة في استخلاص وتطوير أفكار أثّرت في إحداث انعطافة فكرية على مستوى المشهد المسرحي .
يشير الكاتب إلى أهمية النظرية النقدية الاجتماعية وعلاقتها بالفن وتطوره علاقة تخادم. حيث يدفعنا هذا الواقع إلى توسيع دلالة الصورة لتشمل النشاط الذهني (الصورة العقلية والفكرية), والنشاط النفسي (الخيال والإدراك), والنشاط اللغوي - الصور السمعية - وهي كلها من مظاهر حضارة الصورة التي تتجلى في الأبعاد المكانية الملموسة والمجردة, وتعمل في المقابل على خلق عالم متطابق مع الواقع (خطاب الصورة) أو عالم بديل للواقع المعيش أكثر سحرا وأكثر صدقا أحيانا, وهو الذي يحظى في الغالب الأعم بامتلاك المتلقي والاستحواذ على بصره وبصيرته.
وهنا نرى أن الكتابة تتجه إلى الفرد.والصورة تخاطب المجموعة. إن حضارة الصورة تجاوزت منطق النزعة الفردية, وتبنت خيار النزعة الجماهيرية طلبا للتسويق والاستهلاك والتأثير في الرأي العام, فهي لم تعد تؤمن بقيم النخبة الارستقراطية, بل بالقيم الاستهلاكية وحدها التي تمليها الفلسفة البراغماتية. ومن هنا راهنت كثيرا على وسائل
الإشهار.
ان الغاية من التركيز على مفهوم الخطاب البصري هو الخوض في التجريب القائم على مفهوم الاعتناق من التحديد والتقويض، حيث تحرر الفن من مفهومه على أنه مهارة حرفية لتحل محلها رسالة غامضة موجهة من الفنان إلى جمهوره، يطرح فيها قضايا مهمة حول وظيفة الفن وعلاقته بالمشاهد، من خلال التركيز على فكرة العمل الفني ودورها الفاعل في احداث علاقة جدلية بين المشاهد والعمل، ما ادى إلى أن هجر الفنانون قاعات العرض والمتاحف ولجؤوا إلى ابتكار أعمالهم في الخارج وأماكن جديدة يشارك فيها الجمهور, وبذلك اعتمد الفن على مفاهيم جديدة، وعلى توحد العمل مع البيئة والطبيعية. تناولت اساليب عديدة ارتبطت بسماته السابق ذكرها. فتلك الاساليب الفنية المتعددة والمتضادة في العمل الفني نفسه كالبسيط والمعقد، فتختلط ببعضها البعض ليبلور كل ذلك اتجاه فني جديد يستخدم التفكك بدلا من الاتحاد, كما أمكن فيه ادخال التكنولوجيا المتاحة مع الاقتباس من أعمال فنية متعددة.
وقد صار الاهتمام بالصورة في المسرح في إطار تجديد هيكلة المسرح, وتغيير دورها ووظيفتها, وتغيير ادواتها وتغيير لغتها ومعجمها, وتجديد طريقة التأثيث لفضائها، فأصبحت الأحداث تستبدل بالصور والشخصيات تستبدل بالأصوات, والحركات والاشارات، بدلا من المواقف والحالات.
وفي هذا السياق طال هذا التغيير جسد النص ايضاً وكذلك طريقة الكتابة للمشاهد، ما اسفر عنه تراجع الحوار، وأصبح الإنسان عنصراً مادياً من بين جميع العناصر الأخرى، التي تؤسس المشهد في شموليته وكليته، واصبح من الممكن التعبير عن أشياء كثيرة، دون الحاجة إلى الكلمة، ولهذا من الضروري في المسرح التأكيد على البعد البصري كأثر من التأكيد على اللغة المشهدية.
لذا اصبح المسرح الحديث يعتمد في صياغة اشكاله الجمالية على معطيات التقنية وما تضفيه من ابداعات سواء الشكل العام أو لاغناء المشهدية والافعال التعبيرية من خلال ما تختزنه الصور من شفرات مرئية أو صوتية, فالتقنيات الرقمية أصبحت حجر الزاوية في كتابة أي نص أو رؤية اخراجية في تحديث
العروض.
وختاما الفن المسرحي، الذي يعد من الفنون الشاملة التي تتضمن عديد العناصر التقنية المشهدية، التي يصوغها المخرج وفقا لرؤيته الاخراجية، وهنا اصبح للتقنيات الحديثة دورها الفاعل في تغيير النمط الاسلوبي للإخراج، وأصبحت عملية التحول من النص إلى العرض لا تخضع لما مدون في النص من حوار وكلمات، بل إن الجانب البصري وبناء الفضاء أخذ يستمد من خلال التوظيف التقني وكيفية استثمارها، لما يضفي مزيدا من الشفرات المرئية والسمعية والحركية، وهذا ما يعزز انتاج المزيد من الدلالات وتحقيق ما يصبو إليه الإخراج عبر معالجاته الفنية من استيعاب المعطيات التقنية في تجسيد رؤى معاصرة تنتصر للحداثة والتغيير.