آلَةُ الشّعر

ثقافة 2023/06/14
...

ماثيو زابرودر

ترجمة: عبود الجابري

عندما بدأتُ كتابةَ الشعر في  العشرينات من عمري، لم أكن أفهمُ الكثير عنه حقًا،  فلم تكن لدراستي الجامعية علاقة باللغة، ولم أكن قد قرأتُ الكثيرَ من الشعر. لذلكَ شعرتُ حينذاك  بالإثارةِ والقلق والارتباك. يقينٌ عابرٌ جعلني أشعرُ بوجودِ معنىً في مكانِ ما، وعليَّ أن أشعرَ به لأكتشفه. لكنّني أيضًا كثيرًا ما كنتُ أشكُّ في نفسي، كما لو انَّني أبحثُ في المكان الخطأ، أو أفتقدُ ما هوَ أكثر أهميةً.

في ذلكِ الوقت، كان لديَّ انطباعٌ غامضٌ بأنَّ الشعرا يستخدمون لغةً وتقنياتٍ شعريَّةً للتعبير عمّا يجول في خواطرهم، ليوصلوا  الأفكارَ الأساسية، بطريقةٍ أكثرَ جمالًا وتعقيدًا واختزالاً من النثر. أي أنَّ شيئاً ما، يتعلّقُ بطبيعةِ اللغةِ - جمالها، أو تعقيدها، أو صفاتها المتزايدة – أضفى على  قطعةٍ من الكتابة مكانةَ الشعر، وميَّزها عن النثر العادي.
هكذا كلَّما قرأتُ وكتبتُ المزيد من الشعر، فإنّني أرى بوضوح جازم، عدم وجود ما يضاهي “اللغة الشعرية”. الكلماتُ في القصائد، هي في معظمها  الكلمات ذاتها التي نجدها في أيِّ مكان آخر. لكنَّ طاقةَ الشعر، تلعبُ دوراً أساسّياً في  إحياء وإعادة تنشيط اللغةِ، سواء تلك التي نتداولها، أم تلك التي نكتشفها.
لاحظتُ كذلكَ وجودَ أفكارٍ في الشعر، وهو أمرٌ طبيعي، لكنَّها بدتْ لي بعيدة المنال، بدا ليَ الشعرُ من خلالها، وكأنَّه يدور حول شيءٍ آخر، شيءٍ مثل خلقِ نوعٍ مختلف من المزاج، أو الفضاءِ العقلي، أو طريقةِ التفكير.
يقول الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين:
 “لا تنسَ أن القصيدةَ، على الرغم من أنّها مكتوبةٌ بلغةٍ إخبارية، لا تُستخدَمُ في لعبةِ اللغةِ لتوصيلِ المعلومات.”
 الشعرُ ليس مجرَّد طريقةٍ أجمل لتوصيلِ الأفكار والتجارب والمشاعر. النثرُ يفعل ذلك، عندما يأخذ صبغة الشعر، يفعله بصورة أكثر شمولاً. إذا لمْ توصل معلوماتٍ، فما هي لغةُ الشعر؟ ما الذي يجعلها مختلفَةً عنها في النثر؟ ولماذا نعود إليها و نسعى للحفاظ عليها بوصفنا قرّاءً وكتّاباً ؟
•    مفهوم النوع
 تبدو بعض أنواع الكتابةِ، مثلَ الشعر والروايةِ والأعمالِ المسرحية ، أقل شيوعاً بين عامَّة الناس، فالكثير منهُم يَرون في هذه الأجناس صعوبةً في الإدراك، لذلك يَكمنُ جزءٌ كبير من طاقةِ الأدبِ المعاصر في محاولةِ عبورِ التجنيس، وخلطِ جميع الأجناس الأدبية في نوعٍ واحدٍ من الكتابة. ومع ذلك، عندما يتعلّق الأمرُ بالشعر، فإنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى التفكير بطريقةٍ أكثر خصوصيةً، لأنَّ مسألةَ الجنس الأدبيِّ الذي يختارُه الكاتبُ، هي في حقيقتها مسألةُ هدف: السببُ وراء اختيارِ الكاتب هذا الجنس الأدبي، وكيفَ لهُ أن يشتبكَ مع تلقّينا لهُ كقُرّاء؟
لسنا بحاجةٍ للتفكير في سبب قراءتنا لمنشورٍ ما. عادةً مايكون لدينا إحساسٌ فوريٌّ وبديهيٌّ في تلقّيه، وبالتالي التكيف مع طريقة قراءته، ودونما حاجةٍ إلى انتظارِ من يفسِّرُ لنا ما نقرأ، نفهمُ الفرق بين قراءة الرواية وقراءةِ أي محتوى كتابيٍّ آخر، فنَحنُ نعلم أنَّ علينا أن علينا البحثَ، عمّا هوَ مختلف عن ميولنا في القراءة.
القصصُ والرواياتُ تخلقُ الشخصيّاتِ والمواقفَ من خلال آلية السرد ؛ الصحافةُ تنقلُ المعلومات؛ المقالاتُ تنغمسُ في جهدٍ يصعبُ تصنيفه لاستكشافِ فكرةٍ مُعيَّنة، مهما كانت فضفاضةً؛ تخبرنا المقالاتُ الافتتاحية والخطَبُ بما يجبُ علينا فعلُه وما لا ينبغي علينا فعلُه وما الذي علينا أن نحاول تصديقه.
لا أحدَ يستطيعُ أن يخبرَنا عن دوافعِ  كتابة الشعر، أو الهدفِ من كتابته، أو لماذا يبدو الشعراء مربكين جدّاً؟، ماالذي يبحثون عنه لو تسنّى لنا مشاطرتهم التوقّع؟  ماهو الهدفُ من القافية، الشكل الشعري، الصورة الشعرية  والاستعارات؟ هل هي لتزيين أو إضفاء جاذبية  على رسالةِ الشعر؟ وما هو الغرض الشمولي لكتابة الشعر؟
عندما تُطرح عليَّ مثلُ هذه الأسئلة، أفكّرُ أُسأل عن مثل هذه الأسئلة، أفكر في ما كتبه بول فاليري (1871-1945) في “الشعرِ والفكرِ المجرَّد:
“القصيدة هي في الحقيقة آلةٌ من نوع معيّن ،  لإنتاج الحالة الشعرية للعقلِ من خلال الكلمات”.
 لطالما بدا لي وصفُ فاليري أقرب ما يمكنُ، لأيًّ شخص يروم وصف ما تفعله القصائد: إذا كانت مفردة الآلة صادمةً، وإذا بدت المقارنةُ الميكانيكية فجّةً، فعليك  ملاحظة أنَّ كتابة قصيدةٍ قصيرة قد يستغرق سنواتٍ في بعض الأحيان، بينما يستغرق أثرها على القارِئ بضع دقائق فقط. في غضونِ بضعِ دقائق، سيتلقّى القارئُ الصدمة التي يُحدِثُها التفكيرُ بالصِلات، والومضاتِ التي تراقصت في عقل الشاعر، والأفكارِ التي تراكمت خلال شهور من البحث عن الصيغة النهائية المثلى للقصيدة، والدهشة المتوقعة عند قراءتها من قبل الجمهور، والدهشات المتتابعة التي تصيب الشاعر أثناء كتابة القصيدة، قبل أن يستقرَّ رأيُه على الخيارِ الأخير، تلك التفاصيلُ هي الآلةُ الصغيرةُ التي تنتجُ للقارئ قدرةً على الاكتشاف، وذلك هو سرُّ اختلاف  الذائقة بين قارئٍ وآخر.
 تسعى القصيدة إلى جعل الشعر حدثاً يحتلُّ القارئ أو المستمع. يحدثُ ذلك أولاً للشاعر، وأثناءَ الكتابة، يصنع الشاعرُ شيئًا ما لتزويد هذا الحدث بكل أدوات الاختراق.
يمكن وصف “الحالة الذهنية الشعرية” التي يصنعها الشعر على أنَّها شيءٌ قريبٌ من الحلم أثناءَ اليقظة، حالةٌ وعيٍ عليا، أكثر انفتاحًا، وأكثرَ حساسيَّة. تعزز القصيدة حدوث ذلك، ا من خلال وضع أذهاننا، عندما  نقرأ أو نستمع، بما يتوافق مع الارتباطات التي تصنعُها القصيدة - “الاكتشافات، والصلات، الوميض الذي تحدثه صياغة النص “.
كتبتْ إميلي ديكنسون في رسالة:
“إذا قرأتُ كتابًا وجعل جَسدي كلَّه باردًا جدًا، فلا يمكنُ للنار أن تدفِّئني، فأنا أعلمُ أن هذا هو الشعر. إذا شعرتُ جسديًّا كما لو أنَّ قمة رأسي قد خُلعتْ، سأعلم أنَّ هذا هو الشعر. هذه هي الطريقةُ الوحيدة التي أعرفُها. هل هناك أيَّةُ طريقة أخرى؟”
أحبُّ هذه الإجابة كذلك، لأنَّها شبيهةٌ بتعريف فاليري، كلاهما يُميِّزان الشعرَ عن بقيَّة أجناسِ الكتابة من خلال التأثير الذي يُحدثُه.
يخلقُ مساحةٍ أوسع  لإمكانياتِ اللغة، هذا ما يميّزهُ عن كلّ أشكالِ الكتابة الأخرى. تسمحُ القصائدُ للَّغةَ أن تكونَ مؤقَّتةً، لايقينيةً ، منزلقةً، مثلما تمنحها مساحةً تنسجم والطريقة التي تتجسد فيها ، كشكلٍ منظور أو محسوس من خلال اللفظ، في سبيل تكوين المعنى المنشود، يذكرنا الشعر كذلك بحقيقةٍ نأخذها كأمر مسلّمٍ بها، تلك هي القدرة الخارقة للغة على ربط الناس ببعضهم بغض النظر عن المكان والزمان الذي يعيش فيه هؤلاء الناس.
 إنَّ الطبيعةَ المؤقتةَ للِّغةِ المراوغة ، يتمُّ قمعها بالضرورة في المحادثة العادية، وكذلك في معظم الكتاباتِ الأخرى، ما يجعلُ الشعر مختلفاً عن اشكال الكتابة الأخرى، في احتضان اللغة، ويكمن  ذلك الاختلاف في أنَّ الشعر يبقى المكان الوحيد المُصمَّم  لإتاحةِ ظهور الروابط المخفيةلاسيما عند استخدامها لغرضٍ آخر.
_________________
- ماثيو زابرودر
Matthew Zapruder
 شاعر ومترجم  ومحرر أدبي أمريكي يعيش في أوكلاند بكاليفورنيا،  له  أربع مجموعات شعرية. نشرت مقالاته ونصوصه الشعرية في أشهر المجلات الأدبية مثل نيويوركر، باريس ريفيو، وغيرها.، عمل محررًا لصفحة الشعر في مجلة  نيويورك تايمز.
- المقال من كتابه الذي يحمل عنوان ( لماذا الشعر؟).